هل فات أوان إنقاذ العراق؟ هل فات أوان إنقاذ الشرق الأوسط؟ ما لم يقله بتريوس أن الإدارة الأميركية أسيرة الملف النووي الإيراني لا أكثر.
هناك أخيرا شخصية أميركية تعرف شيئا عن الشرق الأوسط وتفضّل عدم اختزال مشاكل المنطقة بالملفّ النووي الإيراني. افتقدت واشنطن إلى مثل هذه الشخصية التي تجمع بين الجانبين العسكري والسياسي منذ ما يزيد على عشرين عاما، حين لمع نجم الجنرال نورمان شوارزكوف الذي قاد التحالف الدولي في عملية تحرير الكويت في شباط – فبراير من العام 1991.
هناك الآن الجنرال المتقاعد ديفيد بتريوس الذي يمتلك في الوقت ذاته وعيا سياسيا ومعرفة بالشرق الأوسط قلّ مثيلهما. إنّه يحمل، إضافة إلى خبرته العسكرية على الأرض، شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية، حصل عليها بامتياز، من جامعة برنستون، إحدى أرقى الجامعات في الولايات المتحدة.
جاء انتهاء دور بتريوس، الذي أمضى سنوات عدّة قائدا للقوات الأميركية في العراق، ثم قائدا للقيادة المركزية، قبل أن يصبح مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إي) إثر فضيحة ذات طابع نسائي مع امرأة من أصل لبناني. حدث ذلك، في وقت تبدو إدارة باراك أوباما في حاجة أكثر من أي وقت إلى معرفة، ولو قليلة، في إيران والعراق والمنطقة عموما.
عاد بتريوس إلى الواجهة أخيرا عبر الحديث الذي أدلى به إلى صحيفة “واشنطن بوست”. كشف الحديث أن كل كلام عن غياب الخبراء الأميركيين في الشأن الشرق أوسطي ليس صحيحا. هناك شخصيات أميركية لا تزال تعرف، تماما، ما يدور في المنطقة وما على المحكّ فيها. تعرف هذه الشخصيات، من بينها بتريوس، أنّ هناك رغبة متعمّدة، لدى إدارة أوباما في الظهور في مظهر العاجز أمام السياسة الإيرانية على وجه التحديد.
كانت كلّ كلمة في الحديث مدروسة بدقة. كشف الحديث كم يعرف بتريوس إيران. إنّه يعرف، تماما، اللعبة الإيرانية في المنطقة والأساليب التي تمارسها طهران، بما في ذلك استخدام التطرّف السنّي والاستثمار فيه لتبرير التطرّف الشيعي والممارسات الميليشيوية.
كان الحديث عبارة عن أجوبة خطية على خمسة أسئلة وجّهتها الصحيفة إلى بتريوس في أثناء وجوده في كردستان العراق لحضور ندوة موسعة تستضيفها، سنويا، الجامعة الأميركية في السليمانية، التي يرأسها سياسي عراقي كردي مميّز بالفعل هو الدكتور برهم صالح.
ما لفت الإعلام العربي في الحديث كان تركيز المدير السابق لـ“السي. آي. إي” على خطر الميليشيات الإيرانية العاملة في العراق واعتباره “التهديد”، الذي تشكلّه الميليشيات الشيعية، “أكبر بكثير” من ذلك الذي يشكّله “داعش”.
هذا دليل على أن بتريوس يعرف في العمق الموضوع الذي يتحدث عنه، خصوصا أنّه يدرك أن “داعش” ظاهرة عابرة لا يمكن للتحالف الدولي إلا أن ينتصر عليها. يدرك، أيضا، أن الميليشيات المذهبية المحلية العاملة في العراق، أو تلك التي تدور في فلك إيران هي الخطر الحقيقي على الاستقرار الإقليمي في المدى الطويل.
لفتت الإعلام العربي أيضا طريقة تعاطي بتريوس مع وجود قاسم سليماني قائد لواء القدس في “الحرس الثوري” الإيراني في العراق، والصور التي تنشر والتي يظهر فيها سليماني. قال مدير الـ“سي. آي. إي” إنّه لا يريد أن يقول عن صور الضابط الإيراني كلاما لا يليق بصحيفة مثل “واشنطن بوست” تدخل منازل فيها عائلات.
كذلك، لفت الإعلام العربي استخفاف بتريوس بتهديد مبطّن وجّهه إليه في الماضي سليماني عندما كان على رأس القوّات الأميركية في العراق. وقتذاك نقل إليه ضابط عراقي رسالة من الضابط الإيراني يصف فيها نفسه بأنّه “المسؤول عن العراق وسوريا ولبنان وغزّة وأفغانستان”، كان ردّ بتريوس، عبر الوسيط الذي نقل الرسالة، ما معناه أن كلام سليماني لا ينطلي علي وأنّ عليه الانصراف إلى الاهتمام بشؤونه، أي “اذهب إلى الجحيم”.
يبدو بتريوس من خلال نص الحديث، أنّه ما زال يحتفظ بذهن صاف على الرغم من كلّ ما مرّ عليه من صعوبات، ومن احتمال مثوله أمام المحكمة في قضية مرتبطة باتهامه بكشف ملفات، يُفترض أن تكون سرّية، أمام الامرأة المكلّفة بكتابة مذكراته.
كذلك، يظهر الصفاء الذهني للرجل عندما يتحدّث عن شؤون المنطقة ككل، خصوصا عن “إشعاعات تشرنوبيل السوري”. بالنسبة إليه، ما يجري في سوريا حدث في غاية الأهمّية على الصعيد الإقليمي، خلافا لما تعتقده الإدارة الأميركية التي تقف موقف المتفرّج من الحدث السوري. يرى بتريوس أنّه لا تجوز مقارنة الحدث السوري سوى بخطورة حادث المفاعل النووي السوفياتي في تشرنوبيل في العام 1986. ساهم حادث تسرّب إشعاعات من المفاعل في انهيار الاتحاد السوفياتي. كان ذلك من أول المؤشرات إلى الانهيار الذي طاول أوروبا الشرقية. لذلك، يبدي بتريوس تخوّفه من تأثير “انتشار إشعاعات تشرنوبيل السوري” على المنطقة كلّها.
هناك فوق ذلك كلّه كلام عميق صدر عن بتريوس من نوع أنّ الانسحاب الأميركي من العراق في العام 2011، ولّد انطباعا لدى حلفائنا بأننا ننسحب من الشرق الأوسط، وقد أثّر ذلك في قدرتنا على التأثير في الأحداث، وفي نظرة الحلفاء إلى الدور الأميركي في المنطقة.
ليست لدى المدير السابق لـ“السي. آي . إي” أي أوهام في شـأن إيـران التي هـي “جزء من المشكلة (في الشرق الأوسط وسوريا والعراق) بدل أن تكون جزءا من الحل”.
هناك ملاحظات في غاية الدقة في الحديث. من بينها أنّ “تصرفات إيران وراء صعود التطرّف السنّي” و“خلق أرضية خصبة نمت فيها داعش”. كذلك، لديه وصف حقيقي وموضوعي، إلى حدّ كبير، لممارسات حكومة نوري المالكي في العراق. يشير هنا إلى “الفساد والتسلط والتصرّفات ذات الطابع المذهبي” التي أدت إلى “المأساة” العراقية.
هل فات أوان إنقاذ العراق؟ هل فات أوان إنقاذ الشرق الأوسط؟ ما لم يقله بتريوس أن الإدارة الأميركية أسيرة الملف النووي الإيـراني لا أكثر. ما لـم يقله، أيضا، أن العـرب، الـذين يمتلكـون وعيا، كـانوا على حقّ عندما اتخذوا باكرا قرارا بدعم مصر بغـض النظـر عن كـلّ ما تفكّر فيه إدارة أوباما المستعدة للاستسلام للإخوان المسلمين.
شكرا لديفيد بتريوس على حديثه الذي وضّح فيه ما لم يكن في حاجة إلى توضيح، خصوصا في ما يخصّ تخلي الولايات المتحدة عن دورها في الشرق الأوسط لمصلحة إيران…