كان ضروريا أن يأتي سعد الحريري إلى بيروت ليكون حاضرا في الذكرى الحادية عشرة لاغتيال والده، وليؤكد أن لبنان لا يزال “الجمهورية اللبنانية” وليس “جمهورية المرشد”، أي “المرشد” الذي يختار للبنانيين رئيس جمهوريتهم.
ثمّة نقاط مهمّة كثيرة في الخطاب الذي ألقاه في المناسبة أمام جمهور ضاق به المكان المخصص لإحياء الذكرى الأليمة التي شكّلت، بكل المقاييس، منعطفا في تاريخ الحديث للبلد.
الأكيد أن العنوان الأهمّ في الخطاب أن “لبنان لن يكون تحت أي ظرف ولاية إيرانية. نحن عرب، وعربا سنبقى”. معنى ذلك أن هناك وعيا بأخطار المشروع التوسّعي الإيراني من كلّ جوانبه، بما في ذلك الجانب المتعلّق بالحملة المقصودة على المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج العربي، بالاعتماد على أسلوب “التذاكي الدبلوماسي” لدى بعض اللبنانيين والذي لا يمرّ ولن يمرّ على أحد. هذه حملة تستهدف، بوضوح، عزل لبنان عن محيطه العربي وتحويله إلى ذيل للسياسة الإيرانية، أي تابع مباشر لها في ظل انفلات كامل للغرائز المذهبية.
وضع سعد الحريري النقاط على الحروف في الذكرى الحادية عشرة لاغتيال والده. في كلّ فقرة من الخطاب إشارة إلى الجهود المبذولة للتخلّص من كلّ ما كان يمثّله رفيق الحريري في كل مجال وعلى كلّ صعيد، بما في ذلك الازدهار الاقتصادي والدور اللبناني في المنطقة والانفتاح على العرب، خصوصا أهل الخليج. كانت هناك هواجس واضحة لدى زعيم “تيّار المستقبل”، في كلّ سطر من خطابه، بالنسبة إلى ما يحاك للبنان، خصوصا في مجال عزله عن محيطه، وفك روابطه بأهل الخليج العربي بشكل نهائي.
كشف سعد الحريري أنّه يعرف جيّدا ما يحاك للبنان منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري، أي منذ إصرار رئيس النظام السوري بشّار الأسد على التمديد لإميل لحود، مرورا بموجة الاغتيالات التي بلغت ذروتها بتفجير موكب والده ورفاقه، وصولا إلى تفجير محمّد شطح في أواخر العام 2013.
ذهب ضحية الاغتيالات خيرة اللبنانيين، من الشرفاء حقّا، بدءا بسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار أمين الجميّل وأنطوان غانم. استُهدف أيضا وسام عيد ووسام الحسن. كما استهدف اللواء فرنسوا الحاج الذي دفع ثمن التصدي لـ”فتح الإسلام” التنظيم الإرهابي التابع للنظام السوري وأجهزته.
لم يقتصر الأمر على الاغتيالات والتفجيرات. كانت هناك حرب صيف 2006 ومحاولة إقامة “إمارة إسلامية” في شمال لبنان، انطلاقا من مخيّم نهر البارد الذي اعتبره الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله “خطّا أحمر”. كان هناك أيضا الاعتصام في وسط بيروت لتدمير الاقتصاد اللبناني ووسط المدينة، وتهجير أكبر عدد من اللبنانيين من بلدهم، خصوصا المسيحيين منهم.
لا بدّ من استعادة كلّ هذه التواريخ، وكل هذه الأحداث، التي جاءت غزوة بيروت والجبل في أيّار – مايو 2008 استمرارا طبيعيا لها. كان هناك في كلّ وقت رابط بين كل هذه التواريخ وهذه الأحداث التي من بينها فرض “حزب الله” بالسلاح تشكيل حكومة “حزب الله” برئاسة نجيب ميقاتي من أجل إذلال السنّة والمسيحيين تمهيدا لمغادرة سعد الحريري البلد، بعدما تبيّن أن الخطر على حياته أكثر من جدّي.
هذا الرابط بين التواريخ والأحداث بدأ يظهر اليوم من خلال الفراغ الرئاسي الذي يفرضه “حزب الله”. يرفض الحزب انعقاد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية بعدما قرّر المشاركة في الحرب ذات الطابع المذهبي التي يتعرّض لها الشعب السوري على يد نظام أقلّوي لا يمتلك أي شرعية من أيّ نوع. يرفض الحزب انتخاب رئيس في حال لم تلبَّ شروطه. على رأس هذه الشروط أن يكون هو الناخب الوحيد في لبنان، خصوصا في ما يخص الرئاسة.
كشف سعد الحريري في خطابه خطورة ما يطمح إليه “حزب الله” من خلال الإصرار على فرض رئيس للجمهورية على اللبنانيين. تكمن هذه الخطورة في الرغبة في تغيير طبيعة النظام اللبناني بطريقة غير مباشرة. هناك “مرشد” للجمهورية هو حسن نصرالله يقرّر من هو رئيس لبنان. ما على النوّاب سوى المصادقة على ما يقرّره “المرشد”، نظرا إلى غياب القدرة على تعديل الدستور بشكل مباشر، وفرض انعقاد “المؤتمر التأسيسي” والإعلان، رسميا، عن دفن اتفاق الطائف.
أكّد سعد الحريري أن رئيس لبنان ينتخب في مجلس النوّاب ولا يختاره “المرشد”. امتلك الجرأة للقول أن هناك ثلاثة مرشحين هم ميشال عون وسليمان فرنجية وهنري حلو، كما يمكن أن يكون هناك مرشحون آخرون، وما على النوّاب سوى النزول إلى المجلس وانتخاب أحدهم “وسنكون أوّل من يبارك له”. أراد القول أن رئيس الجمهورية ينتخب حيث يجب أن ينتخب. الرئيس لا يعيّنه “المرشد” في هذه الجمهورية التي لا يزال، إلى إشعار آخر، اسمها الجمهورية اللبنانية.
في الذكرى الحادية عشرة لاغتيال رفيق الحريري، بقي الوفاء لرفيق الحريري عنوان المرحلة. الوفاء لرفيق الحريري يعني أوّل ما يعني احترام الدستور والقوانين والعمل من أجل حماية الاقتصاد والمجتمع وعدم قطع أرزاق اللبنانيين، خصوصا العاملين في دول الخليج العربي “التي لم تقدّم للبنان إلا الخير”.
كانت رسالة سعد الحريري واضحة. هناك محاولة مستمرّة من أجل القضاء على لبنان. هناك، في المقابل، من يقاوم هذه المحاولة التي سبق لرفيق الحريري أن تصدّى لها ودفع حياته ثمنا لذلك.
أخيرا، كان من المفترض التنبّه، قبل التقاط الصورة التذكارية لقيادات الرابع عشر من آذار، أن المكون الشيعي كان غائبا عن الصورة. كان هناك السنّي والدرزي والماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي. كانت الحاجة إلى شخصية شيعية في الصورة، خصوصا أن سعد الحريري وجّه في خطابه دعوة إلى الشيعة من أجل “تفكيك الألغام التي تهدّد العيش المشترك”.
في مواجهة مشروع “المرشد”، من الضروري تضافر جهود كلّ اللبنانيين من كلّ الطوائف لتأكيد أن ما يخطط له “حزب الله” منذ سنوات طويلة يحتاج إلى جهود الجميع، خصوصا أولئك الذين يؤمنون بأن لبنان وطن نهائي لأبنائه، وأن لا تمييز بين طائفة وأخرى، وأن الدستور والقانون خير ضمانة لكل مواطن بصرف النظر عن دينه ومذهبه ومنطقته…