يندرج اعتداء ميليشيات عراقية على سفارة البحرين في بغداد في سياق سلوك واضح، كلّ الوضوح، لم تحد عنه ايران منذ العام 1979، تاريخ نجاح الثورة الشعبية في القضاء على نظام الشاه. يدخل مثل هذا النوع من الاعمال في صلب السياسة التي ينتهجها النظام الايراني من اجل تأكيد انّه يمتلك أوراقا إقليمية، في مقدّمها العراق.
تمرّس النظام الايراني على هذا النوع من السلوك داخل ايران نفسها اوّلا. ففي تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1979، استولى "طلّاب ثوريون" على السفارة الاميركية في طهران واحتجزوا الديبلوماسيين العاملين فيها رهائن طوال 444 يوما. كان نجاح تلك العملية، عملية السفارة، إشارة الى تغيير جذري في طبيعة النظام الجديد. كانت عملية احتجاز الديبلوماسيين الاميركيين رهائن بمثابة نقطة انطلاق نحو اتباع سياسة عدائية ليس في الداخل الايراني فحسب، بل على الصعيد الإقليمي ايضا. بدأ كلّ شيء بتغيير حكومة مهدي بازركان التي كانت تضمّ شخصيات ليبيرالية من وزن الدكتور إبراهيم يزدي. منذ تلك اللحظة الحاسمة، دخلت ايران عهدا جديدا تميّز بالرغبة في الهرب المستمر الى خارج في غياب أي اهتمام بتحسين الوضع الداخلي الذي يهمّ المواطن الايراني.
لا يمكن عزل الاعتداء على السفارة البحرينية عن سلسلة طويلة من الاعتداءات نفذتها ايران مباشرة او عبر ادواتها في المنطقة بدءا بنسف "حزب الدعوة" العراقي الذي كان معارضا لصدّام حسين للسفارة العراقية في بيروت في العام 1981. ادّى ذلك الى تدمير كامل للسفارة التي سوّيت بالأرض... والى مقتل 61 شخصا بينهم السفير العراقي وبلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قبّاني التي كانت تعمل في السفارة. لم يكن "حزب الدعوة" في تلك المرحلة سوى نقطة التقاء بين الاجهزة الامنية الايرانية والسورية.
كان تفجير السفارة العراقية في بيروت إشارة أولى الى ان لبنان تحوّل "ساحة" لإيران التي استطاعت بفضل النظام السوري إقامة قاعدة لها في هذا البلد، خصوصا بعد دخول "الحرس الثوري" الى بعلبك ومباشرة نشاطه منها بحجة التصدّي لإسرائيل التي غزت لبنان في حزيران – يونيو 1982. منذ دخول "الحرس الثوري" الى بعلبك، بدأت ايران تتوسّع في لبنان وصولا الى تمكنها من الحاق هزيمة بالوجود العسكري الاميركي بعد نسف السفارة الاميركية ثمّ مقر المارينز في العام 1983. تلا ذلك مباشرة محاولة القضاء على ايّ وجود عربي في بيروت التي هجرتها سفارات عدّة، خصوصا بعد الاعتداء على السفارة السعودية ثمّ على السفارة المغربية.
في كلّ ما قامت به ايران في لبنان، كان هناك تنسيق كامل مع النظام السوري الذي كان شريكا لها في كلّ خطوة أقدمت عليها، بما في ذلك الاعتداء على السفارات العربية والأجنبية وصولا الى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. كان هذا الاغتيال بمثابة مفترق طرق انتقل بعده لبنان من الوصاية السورية – الايرانية الى الوصاية الايرانية الخالصة، بعدما استطاع "حزب الله" ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري والامني السوري من لبنان في نيسان – ابريل 2005.
ما صار عليه لبنان نموذج لما يفترض ان يكون عليه العراق. جاء الاعتداء على السفارة البحرينية بمثابة تتويج للجهود التي تبذلها ايران لتكريس العراق ورقة في جعبتها في المواجهة القائمة مع الولايات المتحدة. اظهرت ردود الفعل على ما تعرضت له سفارة البحرين انّ هناك قوى عراقية ما زالت ترفض الوصاية الايرانية. سعى كبار المسؤولين العراقيين الى ادانة الاعتداء على سفارة البحرين. ولكن ماذا بعد الإدانة، هل سيتخّذ أي اجراء في حق الذين مارسوا هذا العمل المشين الذي يشكلّ اعتداء على العراق قبل البحرين؟
هناك وجوه شبه بين الحال العراقية والحال الايرانية. في لبنان، يوجد "حزب الله" الذي يعتبر نفسه المتحكم بمفاصل مؤسسات الدولة اللبنانية من منطلق انّه لواء في "الحرس الثوري" الايراني. وفي العراق، هناك "الحشد الشعبي" الذي يمكن وصفه بانّه محاولة لنقل تجربة النظام الايراني الى العراق وذلك كي يكون "الحشد" في وضع شبيه بـ"الحرس الثوري" في ايران.
الملفت، منذ احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران، ان شيئا لم يتغيّر في السلوك الاميركي. تقبلت الإدارات الاميركية، بدءا بإدارة جيمي كارتر، ممارسات ايران بكلّ رحابة صدر. اكتفت إدارة كارتر بمحاولة يتيمة لإنقاذ رهائن السفارة ثمّ استسلمت. انتهت هذه المحاولة بكارثة في صحراء طبس حيث سقطت طائرة هليكوبتر أميركية كانت تحمل جنودا من القوات الخاصة المكلفة تنفيذ عملية لإنقاذ الديبلوماسيين الاميركيين.
اذا وضعنا جانبا إدارة جورج بوش الاب التي شغلتها المغامرة المجنونة التي قام بها صدّام حسين في الكويت، نجد ان هناك ادارتين عملتا على مكافأة ايران على سلوكها. سلّمت إدارة بوش الابن العراق على صحن من فضّة الى ايران في العام 2003، فيما حصر باراك أوباما همّه في استرضاء "الجمهورية الإسلامية" بعدما راح يميّز بين "داعش" السنّي و"الدواعش" الشيعية التي ترعاها ايران والتي باتت منتشرة في كلّ انحاء المنطقة.
الى الآن، أظهرت إدارة دونالد ترامب انّها مختلفة. ما اظهرته خصوصا، هو فهم عميق لطبيعة النظام الايراني وممارساته. لدى هذه الإدارة ربط محكم بين كلّ الاعمال التي نفذتها ايران مباشرة او عبر ادواتها. لكنّ ذلك لا يمنع طرح سؤال في غاية البساطة: هل العقوبات كافية كي تعود ايران دولة طبيعية؟
من الواضح، ان ايران تبحث عن اشتباك محدود مع الولايات المتّحدة. كلّ ما قامت به هو بمثابة تحدّ مباشر لاميركا. ليس الاعتداء على سفارة البحرين سوى رسالة إيرانية الى اميركا عبر العراق. الاعتداء طريقة لاظهار ان ايران تتحكّم بالعراق ولن تتراجع عن المكاسب التي حققتها في العام 2003 بفضل الجيش الاميركي. هناك ثمانية آلاف عسكري أميركي في العراق. تعتبر ايران هؤلاء رهائن لديها، اذ تستطيع استخدام ادواتها العراقية لتنفيذ عمليات تستهدف القواعد التي فيها عسكريون اميركيون.
لا شكّ ان دونالد ترامب يرفض السقوط في فخّ إيراني وذلك عن طريق تنفيذ عملية عسكرية محدودة ردّا على عمل شبيه باسقاط طائرة التجسّس الاميركية بواسطة صاروخ إيراني بعيد المدى. ولكن الى متى يستطيع ترامب ممارسة الصبر والتظاهر بانّه قادر على تحقيق انتصار على ايران بفضل العقوبات؟
الثابت ان العقوبات ضايقت ايران الى حدّ كبير. لكنّ الثابت أيضا انّها لم تجعلها، اقلّه الى الآن، تغيّر سلوكها. الثابت أخيرا ان العراق سيكون مسرحا لمزيد من التجاذب الاميركي – الايراني. عاجلا ام آجلا، سيتبيّن لمن ستكون الكلمة الأخيرة في العراق وما اذا كان الرهان على قوى عراقية مستعدة لمواجهة ايران هو رهان في محلّه... ام ثمّة حاجة الى إعادة نظر عربية في العمق في كيفية التعاطي مع العراق!