تكفي قراءة لنص قرار مجلس الأمن الرقم 2254 للخروج بانطباع واحد هو أن القرار زاد الغموض غموضا. لم يعد من جواب عن الأسئلة السورية سوى: زيدوني غموضا.
بغض النظر عن الظروف الملتبسة لمقتل سمير القنطار الأسير اللبناني السابق في إسرائيل، في بلدة قرب دمشق، يعتبر الحادث مثلا آخر على الغموض الذي يحيط بالوضع السوري وكلّ ما له علاقة به من قريب أو بعيد. لا تفسير للغموض السوري سوى بمزيد من الغموض.
من يجيب عن سؤال مثل ماذا كان يفعل القنطار في بلدة جرمانا القريبة من دمشق في هذه الظروف بالذات؟ هل مجرّد وجود دروز سوريين يقيمون في جرمانا كاف ليكون القنطار في البلدة بصفة كونه قياديا، من أصل درزي، في “حزب الله” الشريك المباشر في الحرب التي تشنّ على الشعب السوري؟
أصلا، لماذا كان كلّ هذا الإصرار لدى “حزب الله” على إخراج القنطار من السجن الإسرائيلي بتلك الكلفة الغالية على لبنان واللبنانيين؟ هل مجرّد أنّه درزي وأنّه كان مطلوبا في مرحلة معيّنة استخدام أي ورقة درزية ضد زعيم الطائفة وليد جنبلاط، يبرّران تلك الحفاوة بشخص من هذا النوع؟
في كلّ الأحوال سيبقى الغموض يكتنف قضية اغتيال القنطار، مثلما لا يزال يكتنف اغتيال عماد مغنيّة في فبراير 2008 في كفرسوسة داخل دمشق نفسها حيث إجراءات أمنية شديدة في كل شارع وزاوية…
سيظل الغموض يلفّ ظروف اغتيال العقيد العلوي محمد سليمان في طرطوس مباشرة بعد اغتيال مغنيّة في كفرسوسة، خصوصا أن سليمان كان من بين أهمّ الضباط السوريين الذين ارتبط اسمهم بالعلاقة بإيران وكوريا الشمالية وبملفات أخرى كثيرة على علاقة مباشرة بالأسلحة التي يحصل عليها جيش النظام… وبالبرنامج النووي السوري.
كذلك، سيظل الغموض يحيط بخطف هنيبعل القذافي إلى لبنان. لبنانيون مرتبطون بالنظام السوري خطفوه من داخل دمشق. كان هنيبعل في حماية إحدى العصابات العائلية التي وفّرت له حماية في الأراضي السورية، حيث صار يتمتّع بوضع اللاجئ السياسي. اضطرّ الخاطفون لتسليمه إلى السلطات اللبنانية بعد الضغوط التي مارستها عليهم العصابة السورية. ما العمل به الآن؟
كلّما مرّ الوقت، يزداد الوضع السوري تعقيدا وغموضا. لا أحد يستطيع الإجابة بدقّة عن سؤال آخر من نوع لماذا كان التدخل العسكري الروسي في سوريا؟ هل يكفي للحصول على جواب طمأنة فلاديمير بوتين لمواطنيه في مؤتمر صحفي عقده أخيرا بأن الحملة السورية لن تكلّف الخزينة شيئا؟
قال بوتين بالحرف الواحد “إن الحملة العسكرية الروسية في سوريا لا تؤدي إلى أي ضغوط جدّية على الموازنة”، موضحا أنّ “المبالغ المخصصة للتدريبات العسكرية والمناورات” أُعيد “توجيهها” ووضعها في خدمة الحملة السورية. أضاف أنّه كان علينا “أن نرمي شيئا”. لم يوضح ما هو هذا الشيء الذي عليه رميه، مكتفيا بالقول، بتهكّم ليس بعده تهكّم، من دون أخذ في الاعتبار قتل سوريين مدنيين، إن الغارات الجويّة الروسية هي أفضل بديل من التدريبات العسكرية، ذلك أنّه “من الصعب تصوّر تدريب عسكري أفضل. نستطيع متابعة التدريبات لفترة طويلة من دون عبء زائد على الموازنة”.
شرح الرئيس الروسي كلّ شيء باستثناء السبب الحقيقي للتورط الروسي في سوريا، وذلك في وقت كان نظام بشّار الأسد على حافة السقوط العملي. النظام سقط. المسألة مسألة وقت فقط. لماذا تدخّلت روسيا في لحظة معيّنة دفاعا عن نظام ساقط؟
كلّ ما تشهده سوريا غامض. الأمر الوحيد الواضح يتمثّل في الرغبة في إطالة مأساة الشعب السوري. من يحتاج إلى دليل إضافي يستطيع العودة إلى القرار الأخير لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يحمل الرقم 2254، لأنّ هذا القرار صدر بالإجماع، كان لا بدّ من أن تكون العبارات الواردة فيه مطاطة إلى أبعد حدود وكأنّ المطلوب إطالة المأساة السورية… إلى اليوم الذي لا يبقى فيه حجر على حجر في أي مدينة أو بلدة أو قرية سورية.
ذروة الغموض الموقف الأميركي. كان مفيدا قراءة الحديث الذي أدلى به تشاك هيغل وزير الدفاع السابق إلى “فورين بوليسي” للتأكد من أن شخصا كان في موقعه لمدة سنتين، لم يستطع تبيان ما يريده باراك أوباما في سوريا.
في الحديث الطويل الذي كان ثمرة لقاء استمر ساعتين، وهو الأوّل لهيغل منذ استقالته في العام 2014، لا يخفي وزير الدفاع السابق استغرابه لتصرّفات أوباما ولطريقة إدارته شؤون الدولة عن طريق مجموعة صغيرة من المستشارين المحيطين به.
لعلّ أهمّ ما في الحديث، كشف هيغل كيف أن أوباما اتصل به يوم الثلاثين من أغسطس 2013، ليبلغه بالعودة عن قراره بتوجيه ضربة إلى قوات النظام السوري بعد لجوء الأخير إلى السلاح الكيميائي في حربه على شعبه وذلك يوم الواحد والعشرين من الشهر ذاته.
وقتذاك، تجاهل الرئيس الأميركي، كلّيا، الخط الأحمر الذي رسمه لبشّار الأسد بعدما انتهت وزارة الدفاع الأميركية من كلّ استعداداتها لضرب قوات النظام.
يترك هيغل للتاريخ قول كلمته في ما إذا كان خيار أوباما صحيحا أم لا، لكنّه يخلص إلى القول “ليس لدي أدنى شكّ في أن ذلك أساء إلى صدقية ما يقوله الرئيس”. وكشف أنّه في الأيام والأشهر التي تلت تراجع أوباما عن ضرب بشّار الأسد كان زعماء العالم يؤكدون له أن ثقتهم بأوباما “تعرّضت لهزّة”، مضيفا أنّه لا “لا يزال يسمع إلى اليوم احتجاجات من زعماء أجانب” على ما فعله الرئيس الأميركي.
خرج هيغل من وزارة الدفاع بعدما اكتشف أن أوباما لا يلتزم بكلامه، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بسوريا. تولّي السناتور السابق، الذي قاتل في فيتنام، وزارة الدفاع على الرغم من أنّه ينتمي إلى الحزب الجمهوري. خرج بأسئلة كثيرة يدور معظمها حول غياب الإستراتيجية الأميركية في سوريا.
من اغتيال القنطار إلى كلام تشاك هيغل، مرورا بكلّ الأحداث والحوادث السورية، بما في ذلك تغطية بشّار الأسد، في أقلّ تقدير، لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه ولكلّ عمليات الاغتيال الأخرى في لبنان، لا جواب واضحا عن أي سؤال كان، بما في ذلك “انتحار” غازي كنعان وتصفية رستم غزالي أو الأسباب الحقيقية التي جعلت تركيا تسقط القاذفة الروسية قبل نحو شهر.
في كلّ يوم يمرّ يزداد الوضع السوري غموضا. تكفي قراءة لنصّ قرار مجلس الأمن الرقم 2254 للخروج بانطباع واحد هو أن القرار زاد الغموض غموضا. لم يعد من جواب عن الأسئلة السورية سوى: زيدوني غموضا.