غسان شربل
تعبنا من الكتابة عن نوافير الدم. والخرائط المذعورة. وسياسات النحر والانتحار. ومهرجانات الفتنة. والعواصم التي تنكرت لقناديلها لتسبح في الظلم والظلام. تعبنا من بحيرات الجثث. وأمواج النازحين. من مصانع الأرامل والأيتام. ومن ركام المدن والقرى. واستجداء المساعدات. قلنا نغتنم ما حل بسيلفيو بيرلسكوني لنكتب مقالاً لا تتدلى الجثث بين سطوره.
استوقفني أن يقرر مجلس الشيوخ الإيطالي وبعملية تصويت علنية إسقاط عضوية بيرلسكوني وطرده من المجلس. على العربي ألا يسارع في الظنون. لم يقتل الرجل أحد مساعديه. ولم يضلع في اغتيال منافس. لم يرسل سيارة مفخخة إلى الحي المجاور. ولم يوزع الموت على خريطة بلاده. القصة أبسط بكثير. أدانته المحكمة بالاحتيال الضريبي وقضت بسجنه أربع سنوات مع إعفائه من ثلاث منها. استندت المحكمة إلى قانون صدر في 2012 يقضي بعدم أهلية أي مسؤول لشغل منصب رسمي خلال ست سنوات إذا دين بعقوبة السجن لمدة تزيد على سنتين.
إننا نتحدث عن رجل ترك بصماته على الحياة السياسية الإيطالية منذ التسعينات وسواء كان في الحكم أم المعارضة. صاحب الرقم القياسي في الإقامة في منصب رئيس الوزراء (تسع سنوات على ثلاث فترات) في الجمهورية الإيطالية والثالث منذ توحيد البلاد في 1861. ثم أنه زعيم حزب «إيطاليا إلى الأمام» القوة الأبرز في صفوف اليمين الإيطالي. وهو أيضاً صاحب امبراطورية مالية وإعلامية وينام على خمسة بلايين دولار.
غريبة قصة بيرلسكوني إنها قصة رجل لا حدود لشراهته. عاشق سلطة وعاشق ثروة وعاشق نساء. تسلت الصحف طويلاً بأخبار مغامراته النسائية ولم يرف له جفن. في إيطاليا الكاثوليكية وعلى مقربة من الفاتيكان كان هذا المراهق المتهور المتهم بالفساد ومغامرات حتى مع قاصرات زعيماً شعبياً ينادي أنصاره فيملأون الميادين.
أحب قصص الحكام وارتكاباتهم. إنها تشوهات المهنة. منذ سنوات أقرأ عن هذا الرجل. تلتقي في شخصه أبرز شراهات الكائن. تضاعف اهتمامي به بعد لقائي بنوري المسماري الذي كان أمين المراسم لدى العقيد معمر القذافي وظله في حله وترحاله.
سألت المسماري عن صحة الصورة التي تظهر بيرلسكوني يقبل يد «ملك ملوك أفريقيا». كنت أعتقد أن الأمر مجرد إفراط في الإنحناءة وأن أجهزة العقيد أوصلت قسراً شفتي الزائر إلى يد قائد الثورة. قال إنه كان واقفاً بين الرجلين حين تقدم بيرلسكوني وقبل يد القذافي.
قال المسماري ما هو أدهى. حكى أن القذافي زار إيطاليا وأن بيرلسكوني الذي يعرف جموح الزائر دعاه فجأة إلى «ليلة أنس» في سردينيا. بذل الوفد الليبي يومها جهوداً استثنائية لثني القائد عن المشاركة في «ليالي بيرلسكوني». ولمرة اختار القذافي تجنب الفضيحة بعدما أفهم أن الصحافة في إيطاليا «لا يمكن إسكاتها كما هو الحال عندنا». ولم يبخل رئيس الوزراء الإيطالي على الزائر الكبير ببعض النصائح عن الأعشاب والمنشطات.
أنا العربي لم أعد أشعر بغير الحسد. أشعر بالهزيمة كلما قرأت عن بلد لديه مؤسسات تعمل وتشرع وتراقب وتحاسب. أشعر بالهزيمة مضاعفة حين يتعلق الأمر بالعدو الإسرائيلي حيث تجرؤ الشرطة على استجواب رئيس الوزراء أو وزير الخارجية. أكثر ما يؤلم أننا نسافر من قاع إلى قاع ويزداد الظلام رسوخاً في يومياتنا وتبتلع الكهوف ما كنا نعتقد أنها برلمانات أو مؤسسات.
وعلى رغم إدراكي للفوارق تنتابني أحياناً أسئلة ساذجة. كم كان مفيداً لو أن مجلس قيادة الثورة لجم باكراً جنون صدام حسين. وكم كان مفيداً لو أن أركان «ثورة الفاتح» أقالوا القذافي باكراً. أسئلة كثيرة وطويلة عن دول عربية كثيرة. أخشى أن يأتي يوم يترحم فيه الناس على الطغاة الذين انتفضوا لإطاحتهم. عواصمنا مفخخة بالمذهبيين والانتحاريين وبلداننا عارية من المؤسسات وشاشاتنا تسبح في مياه الفتنة.
ماذا يقول العربي لو قيض له أن يشهد جلسة طرد بيرلسكوني؟. سيقول إن الرجل مسكين. ما هي جريمته إذا قيست بالجرائم التي انتجت أنهار الجثث وأنهت دولاً وبددت شعوباً؟ أين جريمته؟ لقد أحب السلطة وقل من يكرهها. وأحب الثروة ونادر من لا يشتهيها. لن أخوض في مغامراته العاطفية فإيطاليا بلاد فاتنة أصلاً.