طلال سلمان
إذن، فالحوار ممكن ومطلوب بل وضروري، لا هو محرّم شرعاً ولا هو مستحيل منطقاً ومصلحة، بل إنه في صميم ذلك كله كمدخل للتخفف من أشباح الفتنة التي يسعى النافخون في نارها والمستفيدون من حريقها إلى استدعاء «داعش» الذي يقاتل بشراسة وهو يحاول اجتياح بلاد الشام.. أو طلب نجدة «الاستعمار»، بالرجاء للعودة إلى البلاد التي بالكاد قد غادرها أو أوهم أهلها بذلك.
مع ذلك فلعل المشاركين في الحوار ممن كانوا أصدقاء بل وحلفاء ذات يوم، والذين يأتون الآن بعضهم إلى بعض من البعيد، يتخففون من أثقال غلط القطيعة، ويمشون فوق طريق قد تعترضها ألغام نابعة من ترسبات الخصام الذي لم يكن مبرراً دائماً، والذي كاد يصير، وأكثر من مرة، عداء يأخذ إلى الفتنة... ولعلهم الآن يتقدمون مدفوعين بمخاوف جدية تجبر الجميع على استعادة وعيهم بالواقع وما يتجاوزهم جميعاً من مخاطر داهمة للبنان بمكوناته كافة.
فالحريق الذي التهم بعض العراق وبعض سوريا «يبشّر» الوطن العربي كله، بمشرقه ومغربه، بحريق قد يلتهم الأوطان والدول وأهلها والثقافة والتراث الحضاري والسياسة بمختلف تياراتها وتشكيلاتها المدنية، وصولاً إلى تلك المسلحة بالشعار الديني.
وإنه لأمر طيب أن يباشر الجميع الخروج تماماً من مستنقع الضغينة والأحقاد والرغبة بالثأر التي غلبت على الخلاف السياسي، بل هي قد وظفت ذلك كله لتأجيج الصراع بما يسهل نقله من السياسة إلى الدين، بل إلى الطائفة والمذهب.
على أن المباشرة في الحوار لا تسقط المخاوف تماماً، إذ إن ثمة أطرافاً وقوى لا يستهان بها ستكون متضررة من «الصورة» فكيف إذا ما تبدى أن الحوار جدي، وأن القرار متخذ فعلاً باستكماله وصولاً إلى التوافق على المسائل الجوهرية التي تلامس حياة اللبنانيين جميعاً وأخطرها خلق المناخ الملائم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وإقرار قانون عصري للانتخابات يستحقه اللبنانيون الذين تحملوا وطأة التشهير بهم عبر تعظيم صراعاتهم السياسية المغرقة في الطائفية، بحيث تظهرهم مجموعة من القبائل والعشائر من عبدة الأصنام يتبعون غرائزهم وأسباب التخلف الكامنة فيهم، بينما لا يتعبون من الكلام عن الحداثة، ويؤكدون جاهليتهم وهم «يتحاورون» عبر أحدث وسائط الاتصال!
إنها خطوة أولى على طريق طويلة مليئة بالألغام التي زرعها المستفيدون من الفتنة وتعهدوها بالرعاية، فكانوا يعظمون الصغائر لتبرير ارتكاب الكبائر، ويزعمون أنهم إنما يتصارعون سياسياً في أنهم كانوا قد تسببوا في إلغاء السياسة لتخلو الساحة للاعبين بنار الفتنة، في الداخل بتحريض من الخارج، أو من بعض الخارج ولأسباب تخصه في داخله.
إنها بداية لرحلة شاقة ولكن أهدافها مهمة بل جليلة، فليس أمراً عارضاً أن تختفي «الدولة» من حياتنا، وأن نستغني عنها بتركيبات عشائرية متخلفة ليس ثمة ما يبررها غير المنازعات التي يصعب فضها إلا بعد تعطيل الألغام الطائفية والمذهبية.
على أن تحصين هذه الخطوة لا يتم إلا باستحضار «الشريك الكامل» فيها، حتى لا يستشعر «المسيحيون» أنها تفاهم بين المسلمين يقارب التواطؤ عليهم.
وصحيح أن لكل طرف في هذا الحوار حليفاً جدياً يقارب في تحالفه حد الشراكة، لكن المهم أن يستحضر الطرفان (وراعي اللقاء) الحلفاء ــــ الخصوم، فيحفظ المؤتمرون حقوق الطرف الثالث بوصفه ركيزة التوافق الوطني العام، فإن غاب صار اللقاء الثنائي «مؤامرة»، أو هكذا قد يفهمها الشريك الغائب، أو تقدم إليه على أنها شراكة على حسابه وتهميش لدوره، خصوصاً في هذه اللحظة التي يعم المنطقة مناخ حرب أهلية أطلقها هذا الهجوم الوحشي لـ «داعش»، والذي لم يرحم خلالها المسلمين، سنة وشيعة، وإن كان قد استهدف الأضعف كمثل الإيزيديين والكلدان والأشوريين الذين كانوا في هذه البلاد قبل انبلاج فجر الأديان باليهودية والمسيحية والدين الحنيف.
هي خطوة أولى على الطريق الصح..
والطريق طويلة، لكن المهمة جليلة وتستحق الجهد... فليس أمراً هيناً أن يعيد «المسلمون»، مرة أخرى، بناء هذه الجمهورية المهددة دائماً في رأسها ومن رأسها!