بقلم - سحر الجعارة
«مليكة» التى جسّدتها الفنانة الأردنية «ركين سعد»، هى أروع وأشهر «غولة» أطلت على الشاشة الصغيرة، رغم أنها لم تكن بطلة مسلسل «واحة الغروب».. المأخوذ عن رائعة الكاتب الكبير «بهاء طاهر» التى حصلت على جائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2008.تدور أحداث المسلسل خلال نهاية القرن الـ19، فبعد فشل الثورة العرابية، تقوم السلطات بنقل «محمود»، ضابط بوليس ذى الأفكار المؤيدة للثورة «خالد النبوى» إلى واحة سيوة فى إجراء ظاهره تكريم وباطنه عقاب، وتصحبه زوجته الأيرلندية «كاثرين» المهتمة بالآثار «منة شلبى»، ليصطدم الاثنان بالوضع الأمنى وحالة حرب بين أهالى الواحة، وتم تصوير عدد من المشاهد فى الصحراء البيضاء التى أصبحت الآن محمية طبيعية.وهناك تظهر «مليكة» بكل ما تحمله من «تمرد» على العادات والتقاليد، وعناد فى الموروث الثقافى الذى يعتبر آثار الحضارة الفرعونية مصدراً للعنة، لكنها تعشق ما يسمونه «المساخيط» وتجلس بالساعات تنحت بكفيها الناعمتين عرائسها الخاصة، وتخفيها عن الجميع.. وتتلقى عقابها من ضرب الأم والجدة راضية وضحكة.. إنها لا تهاب إلا «الموت» الذى يحاصرها بكل ما فيه من سواد وما يصاحبه من خرافات.«مليكة» هى الجانب الوحيد الملون بالبهجة فى الواحة، وفى القلب من أحداث رواية «طاهر» هى الروح التواقة للخلود.. ولو بدفن «المساخيط» فى قبر عريسها.. لكنها ملعونة ومطاردة من القرية، بزعم أنها شؤم لأنها أرملة: «غولة»!.ترى هل ما زالت «الخرافة» تحكمنا وتصنف تراثنا وحضارتنا الفرعونية إلى (لعنة، أصنام، وجثامين لأجدادنا لها حرمة)؟.. تذكرت «مليكة» وأنا أسمع رأى الدكتور «أحمد كريمة»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، وهو ينهى عن استخراج المومياوات الملكية من مقابر الفراعنة، مؤكداً أن فتح القبور محرّم وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، نهى عن نبش القبور تماماً، متابعاً: «حتى فتح قبور الفراعنة فى الأصل ممنوع.. ممنوع استخراج جثامين أجدادنا الفراعنة وعرضها فى فاترينات مقابل حصد الدولارات من الزوار لها، ولكن يجوز استخراج الجثامين فقط للبحث العلمى»!!تذكرت عاماً من حكم عصابة الإخوان: (تحجيب تمثال أم كلثوم فى المنصورة.. وتدمير متحف ملوى بالمنيا، حيث نتج عنه تهشيم وتحطيم كامل لواجهات المتحف وسرقة ما يقرب من 1043 قطعة أثرية من بين 1089 قطعة تشكل مقتنيات المتحف الذى أنشئ عام 1963، عقب فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة المسلحين.. إلخ).ربما لم يسمع الدكتور «كريمة» -من قبل- عن أن «التراث العالمى» هو ملك الإنسانية جميعها.. ولم يعرف أن العالم كله ومنظمة «اليونيسكو» تحديداً المعنية بحماية التراث، قد انتفضوا لمواجهة حركة «طالبان»، حين قررت هدم التماثيل البوذية الموجودة فى أفغانستان عام 2001، وقال الدكتور «نصر فريد واصل»، مفتى مصر آنذاك، إن الآثار تجلب منافع اقتصادية للدول الموجودة فيها عن طريق السياحة.. ودعا المفتى المسئولين فى طالبان إلى عرض التماثيل البوذية التى لا تأثير لها على المسلمين، وقال إن الدستور الأفغانى يجب أن يحمى جميع الطوائف الدينية الموجودة فى أفغانستان!فهل يتصور الدكتور «كريمة» أن فتواه تسقط شرعية تصنيف لجنة التراث العالمى فى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونيسكو» لبعض مواقع التراث العالمية التى تديرها اليونيسكو بموجب اتفاقية حماية التراث العالمى الثقافى والطبيعى؟.. المومياوات الملكية تخضع لليونيسكو فى بعض الأماكن الأثرية.ولولا فن «التحنيط» الذى أتقنه الفراعنة فى مصر القديمة، لذابت أجساد أجدادنا وأكلها الدود.. لكنها بقيت دليلاً على عظمة الحضارة، وليس للبكاء على شباب المومياء التى توفيت من 7 آلاف سنة؟!الدكتور «زاهى حواس» عالم المصريات الشهير، رد على رأى «كريمة» قائلاً: هذا الكلام غير دقيق علمياً، لأننا لا ننبش القبور، وإنما نُرمّم ونحافظ على المومياء وعلى التابوت، وبالتالى فإننا نخلّد هؤلاء الرجال العظام الذين بنوا هذه الحضارة العظيمة.وأضاف «حواس»: من ينبش القبور هم اللصوص الذين دمّروا المومياوات والتوابيت، ولكن علماء الآثار يحيون عقيدة الملك وعقيدة الإنسان على مر العصور، ويقدّمونه فى أحلى صورة، وبالتالى فكلام الشيخ «أحمد كريمة» يمكن أن تقول عليه إنه كلام غير علمى وغير دينى، لأننا لا ندمر القبور ولا ننبشها وإنما نُرممها ونعرضها لنعرض عظمة صاحب المومياء.الدكتور «كريمة» يريد أن يدفن التاريخ، ويكفّن آثاره الباقية، ليقيم جنازة وهمية.. إنها نفس الآثار التى اتفق مشايخ الإسلام على حكم زكاتها وتسميتها (السابقة منها على الفتح الإسلامى والمعاصرة له تسمى ركازاً، أما الآثار الإسلامية فإنها تسمى كنزاً).. لكن المومياوات بالنسبة لـ«كريمة» فقد أصبح لها «حرمة» كحرمة دار الإنسان فى حياته!حرمان العالم والبشرية من التعرّف على أسرار التحنيط ورؤية المومياوات الملكية لا يعادل عند الرأى العام العالمى إلا ما فعلته طالبان بالتماثيل البوذية فى أفغانستان.ولا يعنى بالنسبة لعلماء الآثار إلا «تخاريف» لا علاقة لها بالعلم ولا بالاتفاقيات الدولية الموقّعة عليها مصر.. وأخشى أن نتمادى فى هذا الاتجاه، لنجد فى النهاية من يطالب بإرثه من أجداده الفراعنة، لأننا نتجاهل العقل والحكمة والإدارة الاقتصادية لنحو ثلث آثار العالم، ونردّد كلاماً قد يعتبره البعض هذياناً أو لوثة عقلية.مأساة هذا البلد أن العمائم تُفتى فى الطب والعلم والسياحة والفن.. أما الخبراء والمتخصصون فاكتفوا بالندب على حالة «السيولة الدينية» التى أغرقتنا!