عريب الرنتاوي
دبلوماسيون غربيون كُثر، ومن مستويات شتى، التقيناهم في مناسبات شتى مؤخراً، ينظرون إلى مهمة الوزير الأمريكي بوصفها "آخر أمل" لاستئناف المفاوضات وإنقاذ عملية السلام ... بعضهم قال، إن فَشِل كيري، فلن تكون هناك جولات جديدة أو موفدين جدد ... ويزيدهم إصرار الوزير على إتمام مهمته، واستثماره فيها للكثير من الوقت والجهد، يزيدهم إيماناً بضرورة اغتنام الفرصة، وعدم السماح بإحباط هذا المسعى، بل ويدفعهم إصرار كيري ودأبه على الأمل بأن رئيس الدبلوماسية الأمريكية، بالغٌ مُراده لا محالة.
مَثَلُ التعلق بكيري ومهمته، مثل الغريق الذي يتشبث بأي قشة، علّها تنجيه من غرقٍ مُحتم ... وربما لهذا السبب بالذات، تجد معظم محدثيك من موفدين وأعضاء سلك دبلوماسي، لا يريدون الاستماع لأي تحفظ، أو الإقرار بوجود عقبات كأداء قد تجعل من مهمة الرجل، مهمة مستحيلة ... حتى أنهم وضعوا لأنفسهم "حد أدنى" لا يجتاز عتبة استئناف المفاوضات مجرد استئنافها، وبأي ثمن، ولسان حالهم يقول: إن لم تُستأنف المفاوضات، فقد لا تستأنف أبدا.
لكنك تصيبهم بالصدمة حين تضعهم مباشرة أمام سؤال: وماذا إن استؤنفت المفاوضات، وانتهت إلى ذات المصائر التي بلغتها جولات سابقة من "المفاوضات العبثية" ... أليس انهيار المفاوضات بعد استئنافها، أفدح ضرراً وأشد خطورة من عدم استئنافها؟ ... هنا لا يملك أحداً أن يجيبك سوى بنعم، لكن "اليأس" من استطالة التعثر واستدامته، يدفعهم للقول في نهاية المطاف: دعنا نضع كل ثقلنا خلف كيري، دعنا نجرب ونرى.
هم يعرفون مثل غيرهم، وربما أكثر من غيرهم، أن الطرفين (اقرأ الطرف الإسرائيلي) ليسا جاهزين تماماً لاستئناف التفاوض والقبول باستحقاقات عملية السلام ومتطلباتها ... وهم يدركون أن عباس ونتنياهو، يتقاذفان الكرة ذاته، فلا أحد منهما يريد أن يظهر بمظهر المسؤول عن تعطيل مهمة كيري وإحباط صاحبها ... هذا أمر مكلف، يتعين تفادي تداعياته بأي شكل من الأشكال، وهنا يُقال لك، أن جزءاً مما يجري في جولات كيري، إنما يندرج في سياق "لعبة العلاقات العامة"، ودائماً بهدف درء الضرر وليس استجلاب المنفعة/التسوية.
يريدون للرئيس عباس أن يذهب إلى غرف التفاوض من دون شروط مسبقة، مع أنهم يدركون بل ويُقرّون، بأن كل ما يطلبه ويشترطه، إنما هو جزء لا يتجزأ من مرجعيات عملية السلام ومواثيقها ... بل ويؤكدون أن الطريق لتلبية هذه المتطلبات وإنفاذ تلك الشروط، إنما يتجلى في الإسراع بالجلوس إلى مائدة التفاوض ... لكن مع ذلك، فليس من المُستبعد، أن تلجأ أطراف غربية عديدة، إلى تحميل السلطة و"أبو مازن" وزر فشل مهمة كيري وإحباط صاحبها، طالما أن تحميل نتنياهو هذه المهمة، أمراً عصياً على التخيّل أو المراهنة.
تحميل المسؤولية لـ"أبو مازن"، أسهل بكثير من تحميلها لبينيامين نتنياهو، وأقل كلفة ... تماماً مثلما كان عليه حال مفاوضات كامب ديفيد، حيث انتهت إدارة بيل كلينتون الديمقراطية، إلى تحميل ياسر عرفات مسؤولية إحباطها، مع أن إيهود باراك كما اتضح لاحقاً، لم يتقدم بعرض جدي للجانب الفلسطيني، دع عنك حكاية "العرض الذي يصعب ردّه" ... وفي ظني أن الرئيس عباس، ملدوغاً من هذا الجُحر مرة واحدة، يرغب ويعمل على ألا يلدغ منه، مرة ثانية.
معظم من تلتقيهم، إن لم يكن جميعهم، يؤكدون لك أن عناصر الحل النهائي، باتت معروفة ومعرّفة ... هي الدولة القابلة للحياة على معظم الأراضي الفلسطيني المحتلة عام 1967 مع تبادل للأراضي، ومن ضمنها القدس الشرقية، التي ستخضع بحدودها ومُقدساتها، لإعادة تعريف وتحديد ... الكتل الاستيطانية ستضم إلى إسرائيل ... والترتيبات الأمنية، ستولي اهتماماً خاصاً بغور الأردن والتلال الغربية المشرفة على إسرائيل، وبما يؤمن لإسرائيل السيطرة المفتوحة، لا السيادة على هذا المساحة التي تشكل 28 بالمائة من إجمالي مساحة الضفة الصغيرة... لا أحد يأتيك على ذكر اللاجئين، فهذا الملف سُحبَ من التداول منذ سنوات طوال، ولم يعد يصلح إلا لمخاطبة الرأي العام المحلي.
معظم من تلتقيهم، إن لم يكن جميعهم، يبدون تعاطفاً مع فكرة "الدولة اليهودية"، ولا يعنيهم من قريب أو بعيد، أن خُمس سكان هذه الدولة، ليسوا من الإسرائيليين اليهود، وأن إقرار هذا الحق، سيضرب مصالح أكثر من خمسة ملايين لاجئ في الشتات والمنافي ... والمؤكد أن حكاية "السيادة على القدس"، لا تثير فيهم مشاعر خاصة، دينية أم إنسانية.
سيأتي جون كيري في جولة سادسة قريباً، ليطلع ممن استبقاهم من فريقه الخاص، على النتائج التي توصلت إليها الأطراف على هذا الصعيد، وسواء أكللت جهود كيري بالنجاح أم حصدت الفشل والخيبة، فإن "فرصة السلام" التي تتحدث عنها دوائرها السياسية والإعلامية، باتت وراء ظهرونا، سيما بعد أن أطلق نتنياهو وحزبه وائتلافه وجمهور ناخبيه، رصاصة الرحمة على "حل الدولتين"، لكن ما العمل، طالما أن رهان المجتمع الدولي الوحيد، ما زال منعقداً على "العملية" حتى وإن لم تفض السلام وتأتي بحل الدولتين.