عريب الرنتاوي
"حملة تحذير"، مشفوعة بـ"حفلة رثاء" للصحف الورقية، تجتاح وسائط التواصل الاجتماعي وأعمدة الكتاب وزواياهم، تقارير وتصريحات تحذر الدولة من مغبة فقدان أحد أمضى أسلحتها، وإحدى أهم أدواتها...لكن رغم كل هذا وذاك وتلك، ما زالت الصحف "الورقية" في عين العاصفة، الأزمة تعتصرها، رواتب معلقة، وديون تتخطى الموجودات، وما من موظف أو صحفي فيها، إلا وله قائمة بالديون والمستحقات المترتبة على إدارة صحيفته.
لست بصدد البحث في الأسباب الخاصة التي شكلت أزمة الصحف الورقية، فتلكم تتحمل مسؤوليتها: (1) الدولة بمؤسساتها المختلفة، التي أمعنت في التدخل في الإدارة والتوظيف والتحرير طوال سنوات وعقود... (2) إدارات الصحف، إن لجهة سوء الإدارة والرواتب والامتيازات الفلكية في أزمنة الرخاء لنفر قليل من كبار المسؤولين... (3) السياسات التحريرية التي راوحت بين "الخوف" و"المحاباة"، وهما المفردتان اللتان تشكل منهما شعار اليونيسكو في اليوم العالمي لحرية الصحافة هذا العام: "صحافة بلا خوف ولا محاباة".
سأكتفي بالمرور سريعاً عند الأسباب العالمية التي فاقمت مأزق الصحافة الورقية، وأهمها على الاطلاق نجاح وسائل التواصل الاجتماعي بالاستحواذ على نصيب الأسد من سوق الإعلانات، وبنسب تراوح ما بين 50 – 90 بالمئة، تتفاوت من دولة إلى أخرى...موجات الانكماش الاقتصادي العالمية (2009 والآن) التي أفضت وستفضي إلى مزيد من التأزم، سيما في ظلال جائحة كورونا الكئيبة وبتأثير "إغلاق الكرة الأرضية"...انتقال القراء بأكثريتهم الساحقة، إلى وسائطهم الالكترونية للبحث عمّا يريدون متابعته من أخبار وتقارير فيديوهات، وفي شتى المجالات.
الصحافة الورقية في العالم برمته، في طريقها للانهيار...ما الغرابة في ذلك، طالما أن عصر "الانسان الديجيتال" يكاد يجرف في طريقه كافة مناحي الحياة...الصحف الورقية ليست أهم من "البنكنوت"، وهذا بدوره في طريقه للاندثار...عصر الورق يلفظ أنفاسه الأخيرة، وجاءت الجائحة لتسرع هذا المسار، بعد أن اكتشفنا أن "الجريدة" و"البنكنوت" يمكن أن يكونا وسيلة لنقل الفيروس الخبيء والخبيث.
نهر التحول الجارف إلى عصر "الديجيتال"، لن توقفه أو تعرقل جريانه، مشاعر الحنين و"النوستالجيا" للصحيفة الورقية، أقول ذلك، وأنا من جيل اعتاد قراءة الجريدة مع فنجان القهوة، وامتهن "قصقصة" الجريدة و"التأشير" على مقالات وتقارير وجمل وعبارات، بقلم الرصاص قبل أن يحل قلم "البيك" محله...أشياء كثيرة نشأنا عليها، نجد أنفسنا مرغمين على تركها، ومن بينها عادة استقبال نهاراتنا بالجريدة الورقية، تقليب صفحاتها، واستنشاق رائحتها...هذا من الماضي.
منذ سنوات توقفت عن قراءة الصحف الورقية، وتأقلمت مع عادة عدم انتظار بائع الجرائد أو موزعها على الصناديق، سعادتي كانت غامرة وأنا أقرأ الصحف الأردنية من واشنطن، قبل أن آوي إلى فراشي، بفعل فارق التوقيت...سعيد بأنني أقرأ صحف لندن، لبنان وفلسطين، ربما قبل كثير من أهلها، وسعيد بخدمات غوغل، التي تمكنني من ترجمة مقالات عن لغات لم أكن أتخيل يوماً بأنني سأمر بها...من يريد ورقاً ومن يريد صحفاً ورقية؟!
صحفنا الورقية بحاجة لاستراتيجيات فاعلة لاقتحام عالم الديجيتال، لست من الخبراء في هذا الحقل، وليس لدي توصيات أقدمها...صحفنا بحاجة للمنافسة في سوق الإعلان الالكتروني الذي بات يستأثر بالحصة الأكبر من سوق الإعلان الإجمالي...صحفنا بحاجة لجرعات من الجرأة والاستقلالية والمهنية، وبعد ذلك، أو قبل ذلك: "حرية سقفها السماء".
في مؤشر حرية الصحافة لهذا العام (180 دولة)، مؤسف أن 22 دولة عربية حلت في منزلة بين مرتبتين متأخرتين: 72 (تونس) و176 (جيبوتي)، الأردن جاء في مرتبة لا تليق به (128) ...هنا الوردة فلنرقص هنا.