بقلم - عريب الرنتاوي
ردود الأفعال العراقية على الصواريخ التي ضربت محيط السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء من بغداد، تراوحت ما بين الإدانة (الحكومة وغالبية الأطراف العراقية) والتنصل من المسؤولية (الحشد الشعبي)، حتى أن بعض الفصائل المعروفة بقربها من طهران، لم تستبعد أن تكون واشنطن هي من عمدت مباشرة، أو أوعزت لبعض عملائها، باقتراف هذه الفعلة.
سبق ذلك، أن تحدثت فصائل عراقية موالية لطهران، عن معلومات تجمعت لديها، عن قيام القوات الأميركية بإدخال أسلحة وذخائر إلى بغداد، لاستخدامها في عمليات مشابهة، ودائماً بهدف إحراج إيران، وتبرير أي ضربة عسكرية يحتمل أن تقدم عليها إدارة ترامب، قبل مغادرتها البيت الأبيض...يضاف ذلك كله، إلى قيام منظمات مجهولة، لم يسمع بها من قبل، بإعلان مسؤوليتها عن عمليات تعرض للقوات الأميركية في العراق...ودائماً ما كانت عملياتها تلقى الإدانة من فريق والتنصل من فريق آخر.
واشنطن في المقابل، تُدرج هذه «الاستفزازات» في سياق سعي إيران للبحث عن انتقام لاستهداف عالمها النووي، الذي قضى بعملية اغتيال معقدة، لم تكشف كافة تفاصيلها بعد، ونفذت بأدوات تقنية شديدة التطور، لكن إدارة ترامب، لم تصل بعد إلى حد توجيه الاتهام الرسمي لطهران بالمسؤولية عن هذه الحوادث، حيث من الواضح أن الطرفين يرغبان في إبقاء العراق ساحة لتبادل الرسائل الدامية والساخنة، بينهما، دون التورط في مواجهة مباشرة، يحسب لها الطرفان ألف حساب.
ما يغيب عن الجدل والتكهنات بشأن عمليات التعرض الأخيرة للأميركيين، هو «الوضع الداخلي» في إيران، وما تشهده البلاد من احتدام في الصراع بين أجنحة النظام وتياراته، لاسيما مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، الذي تنتظره بفارغ الصبر، لتسوية الحساب، أحدها مع الآخر، وسط ترجيحات، بغلبة كفّة الثوريين والمحافظين على كفة المعتدلين والاصلاحيين، أقله حتى الآن، وقبل أن يُكشف رسمياً عن توجهات إدارة ترامب حيال إيران، وتظهر تداعيات هذه المقاربة على الداخل الإيراني.
لا أحد فكّر حتى الآن، في أن العراق، ربما أصبح ساحة لتسوية الحسابات بين أجنحة السلطة في إيران وتياراتها المتنافسة...يكفي أن تستثير غضب الأميركيين، وتدفع العلاقة بين واشنطن وطهران إلى حافة هاوية جديدة، حتى يصبح «الصوت الأعلى» للثوريين في إيران، و»الترامبيين» في واشنطن...مثل هذا الأمر، يمكن أن يخدم أهداف ثوريي إيران بقطع الطريق على إصلاحييها للعودة إلى الرئاسة، ويخدم كذلك رغبة ترامب في «تفخيخ» طرق بايدن ومساراته في السياسة الخارجية.
الذين نفذوا هذه العمليات، والذين تنصلوا منها، من «قماشة» واحدة، لكن مرجعياتهم متنافسة ومتصارعة، ونحن نعرف أن في إيران، من لا يرغب في «المصالحة» مع واشنطن، وفيها أيضاً، من لا يزال مشبعاً بمبادئ «الثورة الدائمة» و»تصدير الثورة»، وأن هؤلاء وجدوا في العراق، ساحة أقل كلفة للاشتباك مع الولايات المتحدة، على أمل إحراج خصومهم المحليين، وهم في جاهزية تامة، للقتال على أي جبهات تقتضيها «العقيدة» و»الحاجة»، ولا يأخذون على محمل الجد، الوعود البرّاقة التي يطلقها الإصلاحيون، لاسيما بعد أن ضربهم «سوء الطالع» في الانتخابات الأميركية 2016، وجاءهم بدونالد ترامب، قبل أن تكمل طهران طريقها للخروج من قبضة العقوبات الدولية، وتشرع جدياً في قطف ثمار اتفاقها النووي مع المجتمع الدولي.
إن كان ولا بد من الأخذ بـ»نظرية المؤامرة» في تفسير ما يجري في بغداد والعراق، فلا بأس من توسيع فتحة الفرجار، لترتسم الدائرة حول كل من يفكر بالتآمر على العراق، وتحويله إلى «صندوق بريد»، وليس حول الأميركيين وحدهم، فهذه النظرية، لا جنسية لها ولا دين.