عريب الرنتاوي
ليست السنة 2020، التي بالكاد بدأت، سنة سعيدة لإيران ... فقد رافقها "سوء الطالع" منذ أيامها الأولى، وخلال أسبوعين فقط، تتالت على البلاد، سلسلة من الأحداث الجسام، غير المواتية، فالأخبار السيئة كما يقول المثل العربي، لا تأتي فُرادى.
بدأت السنة (فجر الثالث من يناير) باغتيال أحد أكبر رموز الدور الإقليمي لطهران الجنرال قاسم سليماني صحبة أحد أهم رجالات الحرس الثوري في العراق أبو مهدي المهندس ... رد الفعل الإيراني، المرسوم بمبضع جراح، ربما يكون أحدث ارتجاجات في أدمغة أحد عشر جندياً أمريكياً كانوا في قاعدة عين الأسد، لكنه لم يجعل الأرض تميد من تحت أقدام القوات الأمريكية المنتشرة في العراق أو "غرب آسيا" كما وعدت القيادة الإيرانية وتوعدت.
لم تمض سوى أيام قلائل (فجر الثامن من يناير)، حتى كانت إيران على موعد مع كارثة إنسانية، نجمت عن إسقاط طائرة أكرانية بصاروخ أطلقته الدفاعات الأرضية التابعة للحرس الثوري، وتسبب بمقتل 176 راكباً من جنسيات مختلفة ... الحادثة التي تنكرت إيران من المسؤولية عنها لثلاثة أيام متتالية، وضعت طهران في موقف شديد الحرج، لم تنته ذيوله بعد، ولسببين اثنين:
الأول؛ لأنه صار واضحاً أن طهران سعت جادةً في البدء لإخفاء مسؤوليتها عن الكارثة، لكن مهمتها لم تكن سهلة على الإطلاق بوجد شبكات تجسس ورصد فضائي والكتروني، وبوجود شبكات تواصل اجتماعي وهواتف ذكية، برهنت أنها أكثر ذكاء من محاولة "لفلفة" المسألة والقائمين عليها.
والثاني؛ لأن الحادثة، تكشفت عن مواطن خلل كبيرة في أنظمة السيطرة والتحكم وإدارة الأزمات، وضعف في التنسيق بين مختلف مراكز القوة، والمستويين الأمني والسياسي في طهران ... إذ ليس من المعقول أن تكون القيادة السياسية جاهلة بما حدث لثلاثة أيام متتالية، فإن حدث ذلك فتلك مصيبة، وإن كانت تعرف وقررت التواطؤ مع لعبة "تضليل الرأي العام وأسر الضحايا" فالمصيبة أعظم.
على أن الأكثر أهمية من كل هذا وذاك، أن "واقعة" الطائرة الأوكرانية، كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت سهلاً ... فجمر الحراك الشعبي الاحتجاجي الغاضب، عاد للاشتعال مجدداً، وبعض من خرج في مراسم تشييع قاسم سليماني، عاد لتمزيق صوره وصور القادة الإيرانيين الآخرين في المظاهرات التي عمّت العديد من المدن الإيرانية، وبصورة تدفع على الاعتقاد بأن عام 2020 سيكون عام الموجات المتعاقبة من الاحتجاجات الشعبية، سيما مع تواتر التقارير المالية والنقدية والاقتصادية الدولية التي تجمع على تفاقم معاناة إيران تحت ضغط العقوبات الأمريكية الخانقة وغير المسبوقة.
غير بعيد عن إيران، وفي العراق، "درة تاج" النفوذ الإقليمي لطهران، لم يتأخر المنتفضون عن العودة لساحات التظاهر والاحتجاج، وبزخم وتحدٍ لم يخلخلهما مقتل سليماني والمهندس وما صاحبه من تراجع في منسوب الاحتجاجات، إلى المستوى الذي ظننا معه (وظن كثيرون غيرنا) أن الحراك الشعبي العراقي سيتصدر قائمة ضحايا الاشتباك الإيراني الأمريكي في العراق وعليه.
والحقيقة أن طهران بذلت كل جهد ممكن لـ"توظيف" مقتل سليماني لإخماد الحراك الشعبي في إيران والعراق على سواء، ولتحقيق هذه الغاية، اعتمدت القيادة الإيرانية وحلفائها "تكتيكاً مركباً"، يقوم على شيطنة الحراك الشعبي الاحتجاجي من جهة، وتعظيم "مغزى ودلالة" الاحتشاد الشعبي الذي ميّز مراسم التشييع، سيما في إيران، ساعية بذلك إلى ضرب عصفورين بحجر واحد: الأول؛ إعادة الاعتبار لنفوذها وسطوتها في حواضنها الاجتماعية وبيئتها الشيعية بخاصة... والثاني؛ "تقزيم" حركات الاحتجاج والانتفاضة، وتصويرها كـ"جملة اعتراضية"، لا تؤثر على سياقات الهيمنة الإيرانية الداخلية والإقليمية.
وإذ بدا أن هذا "التكتيك" قد اعطى أكله في البدء، إلا أن مفاعيله كانت قصيرة الأجل للغاية، وبأسرع مما تخيلنا وتخيّل الإيرانيون وحلفاؤهم كذلك ... استؤنفت الاحتجاجات في العراق وإيران، وعادت طهران ونفوذها الإقليمي لمواجهة هذا "التهديد الناعم" الذي لا قبل لها به أو عليه... وبصرف النظر عن مدى نجاح السيد مقتدى الصدر في حشد "مليونية" يوم الجمعة المقبل، فقد بات من الواضع أن نصف العراقيين (سنة وكرد)، ما عادوا يقبلون بهيمنة طهران على العراق، وربما يُضاف إليهم نصف الشيعة في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية، الذي لم تتوقف انتفاضتهم الحاشدة منذ مطلع أكتوبر الفائت.
غير بعيد عن العراق، كان لبنان يستعيد انتفاضته، انتفاضة السابع عشر من تشرين أول، وإذ بدا أن أصدقاء إيران وحلفائها، يسعون في "استثمار دماء سليمان" لسحب كافة التنازلات التي سبق وأن قدموها للانتفاضة والمنتفضين، والعودة للمطالبة بحكومة سياسية أو أقله حكومة تكنو-سياسية، إلا أن عودة الانتفاضة بزخم وقوة، وبقدر أعلى من الغضب والعنف، أعادت الأمور إلى نصابها، وسرّعت عملية تشكيل الحكومة المختصرة (18 وزيراً) من اختصاصيين برئاسة حسان دياب ... هذا تطور آخر، لم يكن له وقع طيب في طهران ولا على أصدقائها.
على الساحة الدبلوماسية الدولية، لم تكن طهران أوفر حظاً كذلك ... إذ لم يكن قد مضى على مقتل سليماني أسبوعين اثنين، حتى كانت الترويكا الأوروبية (فرنسا، بريطانيا وألمانيا) تقرر تفعيل آلية فض النزاعات في الاتفاق النووي مع إيران، متحللة من مسار اعتمدته منذ أن قرر الرئيس الأمريكي الانسحاب من جانب واحد من هذا الاتفاق.وبعدها بأيام قلائل، كانت بريطانيا وفرنسا تقطعان خطوة كبرى إضافية على طريق التماهي مع مقاربة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حيال إيران، بإعلانهما ما يشبه "بطاقة النعي" للاتفاق النووي، ودعوتهما للشروع في مفاوضات جديدة، للوصول إلى "اتفاق موسع" جديد، يشمل برنامجي إيران النووي والصاروخي ودورها الإقليمي هذه المرة.
ربما تكون الخطوة الأوروبية قد جاءت رداً على تفعيل طهران "الحزمة الخامسة" من خطة التحلل من تعهداتها بموجب هذا الاتفاق، وربما تكون جاءت كنتيجة للضغوط والتهديدات الأمريكية التي كشفت عنها صحف واشنطن لأوروبا، بفرض ضرائب إضافية على سياراتها المصدرة للسوق الأمريكية ... وربما الأمرين معاً.
وعلى الرغم من الانتقادات الإيرانية المتكررة لضعف المواقف الأوروبية وإخفاقها في حماية الاتفاق النووي، إلا أن إيران شعرت باستياء شديد من الموقف الأوروبي، عبّر عنه الرئيس روحاني بقوله: حياة الجنود الأمريكيين في المنطقة مهددة اليوم، وقد تتهدد غداً حياة الجنود الأوروبيين، كما أن المرشد العام للثورة الإسلامية الإيراني، وفي خطبة الجمعة الفائت، الأولى له منذ ثمانية أعوام، فرد مساحة واسعة من هذه الخطبة، لنقد مواقف الدول الأوروبية الثلاثة، وإقناع الإيرانيين بفضيلة "التقوى والصبر والتشبث بحبل الله".
قلنا في البدء، أن "الأخبار السيئة لا تأتي فرادى"، وما أوردناه هو بعض من أكثرها أهمية وخطورة على إيران، بيد أن طهران وفي زمن قصيرٍ للغاية، كانت تواجه أزمة دبلوماسية مع بريطانيا على خليفة اتهام لسفيرها بالمشاركة في "وقفات احتجاجية غير مرخصة"، انتهت بإعلان هذا السفير "شخصية غير مرغب فيها" في إيران، وكانت علاقاتها تصاب بفتور شديد مع كندا وأوكرانيا ودول أخرى على خلفية واقعة "الطائرة المنكوبة"، فيما يطل شبح التعويضات لأسر الضحايا برأسه من جديد، ومن المتوقع أن يثير سلسلة من الازمات الدبلوماسية والمالية التي قد تسهم في زيادة عزلة إيران وإرهاق ماليتها العامة سواء بسواء.