عريب الرنتاوي
عقلية "المؤامرة"، كما "العقل الخرافي"، لا يتوقفان عن البحث عن كل ما غريب ونادر من النصوص، وتأويلها وفقاً للهوى والمزاج، حتى وإن استلزم الأمر، ليّ عنق الكلمات والحقائق والوقائع والتاريخ ... ثمة علاقة وطيدة بين العقليتين، وما بينهما ليس سوى خط رفيع فقط، والمؤسف أنهما ينتعشان في أزمنة الحرب والكوارث، تماماً مثلما يحصل اليوم، في زمن الجائحة، حيث ينشط "العقل الخرافي" في "التأصيل" لمصادر الداء وأسبابه، والتذكير بكوكبة من "المتنبئين" الذين تناولوا الفيروس قبل سنين عديدة، من دون أن يصغي إليهم أحد من أبناء جيلهم.
هذه الأيام، يجري استحضار فيلم “Contagion”، المُنتج عام 2011، للمخرج ستيفن سودربرج، والذي يتنبأ بجائحة كورونا، بعد أن تحدث عن وباء انطلق من هونغ كونغ الصحية، وأودى بحياة 26 مليون من البشر... وفي ظني، أن لا المخرج، ولا المنتج، خطر ببال أيٍ منها، ما ذهب إليه العرّافون والمنجمون في أزمنة كورونا.
الشيء ذاته، ينطبق على رواية "عيون الظلام"، للكاتب دين كونتز، الصادرة في العام 1981، التي تناول مؤلفها حكاية الفيروس "ووهان – 400"، حيث صارت الحبكة الروائية، نبوءة تخفي وراءها مؤامرة، والمتآمرون في أزمتنا معروفين: الولايات المتحدة، وهم في قفص الاتهام حتى بعد أن تحولت بلادهم إلى مسرح كبير لعبث الفيروس وضرباته المميتة.
وصلني على "واتس آب"، فيديو قصير، لمقابلة يجريها إعلامي- رياضي عراقي مع لاعب أو حكم أو خبير آخر، لا أعرف، لكن اللافت في المقابلة جواب الخبير على سؤال الإعلامي بخصوص أولمبياد طوكيو، قبل أشهر من ظهور الفيروس، حيث قال الخبير، أن الأولمبياد لن يجري في موعده، ما عُدّ نبوءة تستطبن مؤامرة أيضاً، من دون أن يكلف مروجو الفيديو أنفسهم عناء السؤال عن موقع وأهمية هذا الخبير، وقدرته على سبر أغوار المؤامرات أو التوطئة لها.
أكثر ما ساءني، هذه الأيام، الانتشار الواسع لشروحات وتفسيرات مغرقة في الجهل والتجديف، لسورة "المدّثر" من القرآن الكريم، وكيف أن آياتها "طُوّعت" عنوة لتقول بانتشار كورونا قبل 1450، ولتحدد بلد المنشأ: الصين ... وبرغم تصدي الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية لهذا "التخريف" و"التحريف" و"التجديف"، إلا أنني شاهدت متدينين بسطاء، يتداولون عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الحكاية، وبكثير من الثقة والخشوع والدهشة.
وتأسف حقيقة حين ترى سيلاً جارفاً من الانتقادات الموجهة لكبريات أجهزة الاستخبارات العالمية، لعجزها عن التنبؤ بالوباء، وتأسف أكثر، حين ترى كتاباً مرموقين، في صحف عربية كبرى، ينضمون إلى هذه الجوقة، مع أن صحفاً عالمية كبرى، نشرت تحقيقات استقصائية رصينة، تؤكد أن التحذير من "الأوبئة" على هذه الشاكلة قديم نسبياً، وأن إدارة الرئيس ترامب تلقت مبكراً، تقارير استخبارية تتحدث عن انتشار كورونا، وآثاره المدمرة على حياة البشر والاقتصاد والأسواق في الولايات المتحدة، لكن الرئيس المعتمد على "حدسه"، والذي يفاخر بأنه لا يقرأ، لم يُعر هذه التقارير أية أهمية، وهو الذي سبق وأن "حلّ" وحدة محاربة الأوبئة في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض و"سرّح" كادرها ... الملامة يجب أن تُلقى على عاتق سياسيين انتهازيين، تهمهم صورتهم في الاعلام وفرصهم في صناديق الاقتراع، أكثر مما تهمهم أعداد الضحايا وحياة البشر ومصالحهم.
في الأحوال العادية" اعتدنا على قراءة الغث والسمين من الآراء والتقديرات والتحليلات ... لكن من أسف، فإننا في زمن الأزمات والجوائح، نجد الكثير من الغث يطغي على القليل من السمين مما يكتب وينشر.