عريب الرنتاوي
يعود الفلسطينيون للانقسام مجدداً حول كيفية التعامل مع "المجتمع الإسرائيلي" ... لقاء عباس – أولمرت في نيويورك، مشاركة فلسطينيين إلى جانب إسرائيليين في اجتماعات ما يسمى "برلمان السلام" واستقبال وفود صحفية إسرائيلية في رام الله، أعادت من جديد إحياء هذا الانقسام، وبصورة أكثر "توتراً" هذه المرة، في ضوء تداعيات "صفقة القرن"، وتزايد الأصوات الفلسطينية المطالبة بتشديد المقاطعة ووقف مختلف أشكال التطبيع مع إسرائيل.
والحقيقة أننا أمام جولة جديدة من جدل فلسطيني داخلي بدأ منذ أكثر من أربعة عقود، وترافق من جنوح الحركة الوطنية الفلسطينية لخيار "التفاوض" و"حل الدولتين" ... يومها ذهبت منظمة التحرير للقول بجواز الحوار والاتصال بالقوى الإسرائيلية واليهودية "المعادية للصهيونية"، ليتبدل الموقف بمرور السنوات للقبول بجواز الحوار مع القوى الإسرائيلية التي تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، وصولاً لإجازة هذا التبادل مع الإسرائيليين من دون استثناء، طالما أن الهدف هو تسجيل "اختراقات" في المجتمع الإسرائيلي، وتوسيع جبهة القوى المؤيدة لحل الدولتين.
استمرار هذه الخلافات وتوالي انفجاراتها بين الحين والآخر، يتسبب في إضعاف الجبهة الفلسطينية الداخلية، وتبديد ما تبقى من ثقة بـ"صلابة" الموقف الفلسطيني من "صفقة القرن" وملحقاتها، والمؤكد أنها تصرف الفلسطينيين عن معركتهم الرئيسة ضد الاحتلال والعنصرية، ما يوجب "حواراً وطنياً" في العمق، يتخطى الحوارات الشكلية التي تدور غالباً حول تقاسم "كعكعة" السلطة، أو استبدال هذه الجملة بتلك في "البيانات الختامية"، وغالباً من دون نجاح يذكر في توحيد الرؤى وبناء قاعدة التوافق.
كيفية التعامل مع المجتمع الإسرائيلي، واستتباعاً التوافق على مفهوم مشترك للتطبيع والتمييز بين ما هو "تطبيع" و"نضال سلمي" كما يقول الأفرقاء، يرتبط أشد الارتباط بالسعي لبناء توافق عريض حول تعريف أو أعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة الاستراتيجية، وما يرتبه ذلك، من توافق حول أدوات المناسبة للكفاح لإنجاز مهام هذا المشروع.إن كنا ذاهبين لمشروع "التحرير الكامل من النهر إلى البحر"، أو للاستقلال في دولة مستقلة على خطوط الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، توطئة لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، فإن ذلك يستدعي أشكالاً من الكفاح، لا تُبقي مطرحاً لنظرية "اختراق القلعة الإسرائيلية من الداخل"، أو على الأقل، لا تبقي له مطرحاً فسيحاً على الأجندة الوطنية الفلسطينية.
أما إذا كنا ذاهبين لـ"حل الدولتين" اللتان ستتمتعان بـ "أجمل سلام" و"أحلى علاقة بين شعبين" كما قال الرئيس الفلسطيني في مجلس الأمن مؤخراً ... أو حتى إن كنّا ذاهبين لـ"حل الدولة الواحدة" والنضال ضد الفصل والتمييز العنصريين، فإن نظرية "اختراق القلعة" ستكتسب أهمية متزايدة في قادمات الأيام ... وعلى الفلسطينيين من دون إبطاء المسارعة لبناء توافقات، أو تحقيق أغلبية وازنة حول مشروعهم، واستتباعاً أشكال الكفاح وأدواته ... فهذه الانقسامات المتناسلة، وفي هذا الظرف بالذات، من شأنها أن تبدد جهدهم وتضيّع بوصلتهم، فيجهزون بيد على ما كانوا قد حققوه باليد الأخرى.
والحقيقة أن استطلاعات الرأي الأخيرة، التي سعت في سبر أغوار الفلسطينيين ورسم خرائط توجهاتهم وتفضيلاتهم، تظهر انقسامات عميقة، بل وتشفّ عن "حالة تيه" تفرض نفسها على الشعب الفلسطيني ... "حل الدولتين" يتراجع لصالح "حل الدولة الواحدة"، وأسهم "الكفاح المسلح" ترتفع على حساب مختلف أشكال النضال، ومستويات التفاؤل والتشاؤم بالمستقبل، تبدو صادمة لكل من يعينه أمر الفلسطينيين ومستقبل نضالهم.... "حالة التيه" هذه، لا يمكن تبديدها من دون حوار وطني، عميق وشامل، يتخطى الفصائل إلى قادة الفكر والمجتمع، وتجد نتائجه وخلاصاته، من يصغي إليها باهتمام واحترام تامين.