سيتعين علينا أن نتتبع حركة ثلاثة نواب لوزراء خارجية بلدانهم، خلال الأسابيع القليلة القادمة،إذ بنتيجة حركة هؤلاء وفي حلّهم وترحالهم، سيتقرر مصير الأزمة السورية، سلماً أم حرباً (مع الاعتذار من عادل الجبير) ... اللافت للانتباه، أن ليس من بين هؤلاء “الفرسان الثلاثة”، عربيٌ واحدٌ؟!
الأول، أو الأفعل، هو نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، الرجل الذي يتحرك على محور طهران – أنقرة، محاولاً بلورة رؤية ثلاثية مشتركة للحل، وهو إذ يهبط إلى الدوحة في أثناء تجواله بين عواصم القرار الإقليمي، فذلك للقاء بعض أطراف المعارضة السورية، لا أكثر.
الثاني، هو حسين جابري أنصاري، معاون وزير الخارجية الإيراني الجديد، الذي أثار تعيينه في منصبه خلفاً لحسين أمير عبد اللهيان (المقرب من الحرس الثوري) ارتياحاً لدى الديبلوماسية الروسية ... الرجل يتحرك على المحور ذاته، مبشراً بالاتفاق على “مبادئ عامة” من شأنها أن تعظّم فرص نجاح العملية السياسية لسوريا
أما الثالث، فهو أوميتيالتشين، مساعد وزير الخارجية التركي، الذي لعب دوراً كبيراً مع نظيره الروسي في التمهيد لزيارة أردوغان “التاريخية” لبطرسبورغ، ومع نظيره الإيراني للتحضير لزيارة محمد جواد ظريف الهامة لأنقرة، ولا يتوقف عن التنقل بين العواصم الإقليمية/ الدولية الثلاث.
مبادئ الحل، الثلاثة أيضاً، التي يحشد بوغدانوف الدعم لها، هي: الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها ... تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة ... ترك الشعب السوري يقرر مصيره ... ويمكن القول إن هذه المبادئ الهامة، وليست العامة فقط، قد أتى على ذكرها بصياغات وتوضيحات مختلفة، كل واحد من الثلاثة المذكورين.
الجانب التركي، كان الأكثر بوحاً عمّا يدور من مفاوضات وما ينبثق عنها من تفاهمات ... رئيس الوزراء بنعلي يلدريم قال إن الحل السياسي لسوريا بات “قريباً”، وأن الأشهر القليلة القادمة، ستشهد تطورات مهمة... من وجهة نظر الحكومة التركية، وحدة سوريا وسيادتها، تعني قطع الطريق على قيام كيان كردي مستقل، وهذا ما تؤيده إيران لأسباب خاصة بها وبأكرادها أولاً، ولا تعارضه روسيا التي تؤثر اللجوء إلى “الغموض البناء” حيال المسألة الكردية، وترحب به سوريا كذلك، سلطة ومعارضة... هذا يتطلب أيضاً عدم السماح لوحدات الحماية الكردية بالبقاء غرب الفرات بعد تحرير منبج من “داعش”، ودفعها للعودة إلى مواقعها شرقيّه، كاشفاً عن تعهدات أمريكية سرية مقطوعة لأنقرة بهذا الصدد، طالباً الالتزام بتنفيذها.... الأمر الذي يعيدنا للاعب رئيس رابع، الذي وإن بدا غائباً عن المفاوضات والمشاورات مثلثة الأطراف، إلا أنه حاضرٌ بقوة، في كل غرفها وتفاصيلها، وأعني به الولايات المتحدة.
الخطوة الأولى في خريطة الطريق التركية، التي يبدو أن ثمة قدرا عاليا من التفاهم بشأنها مع إيران وروسيا، تبدأ بحماية حدود تركيا مع سوريا، هنا يمكن الافتراض أن الحديث والتفاهم قد نصّ على حماية الحدود من الجانبين وبالاتجاهين، وإلا ما معنى الحديث عن وحدة سوريا وسيادتها، فتركيا مسؤولة عن تدفق السلاح والمسلحين إلى سوريا، ولا تفاهم بين الأطراف الثلاثة على سوريا، ما لم يشتمل على إغلاق الحدود وضبطها ... عند هذه النقطة، يكتسب حديث بوغدانوف مزيداً من الأهمية عندما كشف أن تركيا وافقت على إخضاع الممرات الإنسانية عند حدودها مع سوريا،لرقابة أممية مباشرة، وهذا أمرٌ إن صح، يشف عن توجه تركي جديد.
الخطوة الثانية، تشتمل على إعادة هيكلة النظام السياسي السوري، بحيث لا يُسمح بتفوق إحدى الكيانات المذهبية والعرقية والإقليمية في المرحلة الجديدة على غيرها ... هنا تقول أنقرة، أن إعادة الهيكلة تعني “أن الرئيس السوري بشارالأسد لن يكون موجوداً على المدى الطويل”، ما يعني أنه سيظل موجوداً على المدى القصير أو “الانتقالي” ... إيران تفضل الحديث عن “تصويت” السوريين على حكومتهم ونظامهم ... موسكو تريد انتخابات يشارك فيها السوريون كافة، بمن فيهم اللاجئون في الخارج، وبرقابة أممية مناسبة ... المواقف ليست متطابقة تماماً حيال هذه النقطة، بيد أن الفجوة فيما بينها باتت محدودة للغاية ومن النوع القابل للتجسير.
اللافت للانتباه هنا، أن أنقرة التي تبدو شريكاً في صياغة قواعد الحل الثلاث، لم تعترض على حكاية “الحكومة الوطنية الموسعة أو الشاملة”، وهي التي كانت تدعم مطلب المعارضة بإقامة “هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات”، بما فيها صلاحيات رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ... يمكن القول، إن صحت هذه التقديرات، أن هذه أهم إشارة على التغير في السياسة التركية، وأكبر “تنازل” تقدمه أنقرة لصديقتيها الجديدتين، حتى الآن على الأقل.
الخطوة الثالثة، وتتمثل في مشروع إقليمي / أممي لإعادة اللاجئين إلى ديارهم ... تركيا أكبر دولة مستضيفة للاجئين السوريين، وهي تريد الخلاص من هذا العبء الثقيل، والأردن كما لبنان، يشاطرانها الحمل ذاته، ويتطلعان لوقت قريب تجري في عملية إعادة منظمة لملايين اللاجئين السوريين في الدول الثلاث.
حركة “الفرسان الثلاثة” على خط موسكو – طهران – أنقرة، ستتواصل وتتكثف خلال الأيام القليلة القادمة، لتظهير هذه المبادئ العامة، وإكسابها بعداً عملياً تفصيلياً، وثمة العديد من المواعيد المضروبة والزيارات واللقاءات... والأرجح أن دائرة تحرك هؤلاء ستتسع لتشمل عواصم أخرى ... أنقرة وموسكو ستتابعان البحث والحديث مع واشنطن، وهما ستتوليان نقل هذه التفاهمات و”المبادئ العامة” إلى بعض العواصم الخليجية بالأخص السعودية، التي من المؤكد أنها تراقب بكثير من القلق وعدم الارتياح، هبوب رياح التقارب والتنسيق والتفاهم بين العواصم الثلاث، أما طهران وموسكو، فخطوطهما مفتوحة مع دمشق والضاحية الجنوبية ... فهل تصدق نبوءة بنعلي يلدريم السورية، وهل ستشرع وكالات الأنباء “قريباً” بنقل أخبار “جيدة” من سوريا وعنها، بعد سنوات خمس عجاف، من أخبار القتل والتدمير واللجوء والنزوح؟!