منذ اللقاء الأول مع الشيخ محمد بن زايد انفتحت أمامى رؤية طبيعة شخصيته.
كان اللقاء الأول منذ 21 عاماً بترتيب خاص من الصديق العزيز الشيخ عبدالله بن زايد، الذى كان -وقتها- يتولى حقيبة الإعلام فى دولة الإمارات.
كان اللقاء دعوة كريمة على الغداء فى مطعم الأسماك الشهير فى فندق إنتركونتننتال أبوظبى، يومها فاجأنى الشيخ عبدالله: «بعد دقائق سوف ينضم إلينا سمو الشيخ محمد، إنها فرصة لك حتى تتعرف على حقيقة هذا الرجل، الإنسان». ثم أضاف: «إنه شخصية استثنائية».
كانت المائدة عامرة بالطعام وبالضيوف الذين كانوا يصلون تباعاً، وكنا نرى وصولهم من خلف زجاج المطعم، وفى الحقيقة لم أكن -وقتها- أعرف ملامح الشيخ محمد الذى كان ظهوره محدوداً.
بدأ تقديم الطعام تباعاً، وبعد مرور بعض الوقت همست فى أذن الشيخ عبدالله: «يبدو أن مشاغل الشيخ محمد الكثيرة منعته من مشاركتنا الغداء».
ضحك الشيخ عبدالله واقترب منِّى: «يا سيدى، الشيخ محمد هو الذى يجلس بجانبك على اليسار كتفاً بكتف».
أُصبت بالذهول، فالرجل جاء فى سيارة يابانية عادية، أشار فى هدوء للجالسين بعدم الوقوف أثناء الطعام، صافحنى وقال فى صوت خفيض: «أهلاً أستاذ، معاك محمد».
لذلك لم أفهم لحظتها أن هذا الرجل هو «القائد القوى لإمارة أبوظبى، والمؤثر سياسياً وعسكرياً فى ملفات دولة الإمارات».
كانت الصورة المعتادة لكبار الشخصيات فى عالمنا العربى أن يتحرك بمواكب مصاحبة، مجموعة مرافقين من السكرتارية ورجال الأمن، ويجلس على رأس مائدة الطعام، ويعامل بشكل فيه «تبجيل وإكبار بشكل استثنائى».
قل لى الشيخ عبدالله: «هكذا الشيخ محمد دائماً شديد البساطة إنسانياً رغم كل ما منحه الله من قدرات فى شئون الحكم والإدارة».
عقب الغداء، سألنى الشيخ محمد عن فندقى، وحينما أخبرته عرض مشكوراً أن يوصلنى بنفسه.
وفى الطريق، وبينما هو يقود سيارته كان يشير إلى كل مشروع جديد فى أبوظبى التى يعشقها، وكان يتحدث بتفاصيل دقيقة حول تطوير شارع الكورنيش البحرى، وقد أثبتت الأيام أنه استطاع -بالفعل- أن يحول حلمه إلى حقيقة، بحيث أصبح هذا الكورنيش الممتد تحفة معمارية وصرحاً عمرانياً تطل عليه مجموعة راقية من أهم الفنادق العالمية.
لم يعد الشيخ محمد بن زايد بشىء لشعبه أو حلفائه فى المنطقة أو القوى العالمية إلا والتزم التزاماً حرفياً وكاملاً بما وعد.
قال لى الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشئون الخارجية: يكرر الشيخ محمد علينا دائماً: لا تعِدوا بشىء لن تستطيعوا تنفيذه، فالمصداقية يجب أن تكون دائماً هى صفة القرارات فى هذه الدولة.
لذلك حينما خرج الشيخ محمد فى بداية أزمة جائحة فيروس كورونا إلى شعبه قائلاً عبارة أصبحت وعداً وميثاقاً باللهجة الإماراتية المحلية: «لا تشلون هم، تشلون» أى لا تحملوا هماً فقد وعد وطمأن وأوفى.
جاء وعد الشيخ محمد الجماهير القلقة من تداعيات هذا الفيروس برداً وسلاماً، خاصة حينما قال: «لدينا والحمد لله كل شىء متوفر: الدواء، الغذاء، الإمكانات الصحية لعشرات السنين، وهذا الوعد لإخوتنا المقيمين قبل أن يكون للمواطنين».
وبالفعل شعر المقيم والمواطن فى الإمارات أن تأمين الغذاء، والرعاية الصحية، والدعم الاجتماعى الاستثنائى للمصالح والشركات والهيئات متوفر وكريم.
واستطاعت الإدارة الإماراتية، بالإجراءات الاحترازية الذكية والمنضبطة للغاية، أن تجعل الإمارات واحدة من أفضل عشر دول فى العالم تعاملاً مع الفيروس ورعاية سكانها.
بدأ محمد بن زايد الإجراءات الاحترازية لكورونا مطبقاً إياها على نفسه وأسرته وجميع المسئولين من العائلة والمواطنين بلا مجاملة ولا تهاون مع أى إنسان مهما كان منصبه أو شأنه أو ثروته.
الانضباط صفة أساسية، ومكون جوهرى فى شخصية الرجل، فحياته العسكرية تأثرت بدراسته بكلية «ساند هيرست» البريطانية، حيث تلقى تدريبه فى أسلحة المدرعات، والطيران التكتيكى والطيران العمودى «الهليكوبتر» وحصل على دورات فى إمارة الشارقة، ومصر.
وعمل الشيخ محمد كضابط فى الحرس الأميرى، وترقَّى ليصبح فى صفوف قوات النخبة ثم كطيار مقاتل، تعلَّم من كل ذلك سرعة قرار الحياة والموت.
يعمل الرجل ساعات طوالاً، يعشق الخدمة العامة، ويرى نجاحه الإنسانى فى أمرين: الأول هو الإنجاز والنجاح فى العمل العام، والثانى فى طبيعة علاقته بأسرته وأبنائه وبناته وأحفاده.
الشيخ محمد بن زايد متزوج من الشيخة سلامة بنت حمدان آل نهيان، ولديهما أربعة أولاد وخمس بنات، هم: مريم، خالد، شمسة، دياب، حمدان، فاطمة (على اسم والدته)، شما، زايد (على اسم والده)، وحصة.
نقطة الضعف الإنسانى والتعلق الكبير هم أحفاده الذين يحرص على إعطائهم أكبر قدر من الرعاية والحنان.
ويقول الدكتور أنور قرقاش، الذى يعمل بشكل لصيق لسنوات طويلة مع الشيخ محمد: «الرجل لا يعرف البذخ فى حياته، ويميل إلى البساطة فى كل شىء، رغم أنه قادر على أن يعيش حياة أسطورية.
ويضيف الدكتور أنور قرقاش: «انظر إلى الرجل كيف يعيش، فهو لا يعيش فى قصور فاخرة، ولا يمتلك أى يخت، أو يقتنى سيارات فارهة، ويرتدى ساعة يد أقل من عادية».
وحينما سألت الدكتور قرقاش، الذى يعتبر واحداً من أهم المثقفين السياسيين فى الإمارات: «ما هى مفاتيح شخصية الشيخ محمد بن زايد»؟ أجاب:
1- الأمر الأساسى فى هذا المجال هو أن الرجل لا يفكر إلا بـ«أسلوب استراتيجى» بعيد المدى.
2- التفكير الاستراتيجى لديه متأثر تماماً بدراسته العسكرية وكقائد شديد الانضباط.
3- كقائد وإدارى يعطى الشيخ محمد الرؤية الاستراتيجية ويوفر لك الإمكانات لتحقيقها ويفوضك بالإدارة ثم يتابع فى نهاية الأمر النتائج.
ويضيف الدكتور أنور: «تفكير محمد بن زايد يعتمد فى كثير من الأحيان على المخاطرة المحسوبة، لأنه لا يفكر ولا يحلم بشكل محدود، فعندما يريد تطوير أو تحديث أى شأن محلى فى الإمارات ينظر إلى أعلى المعايير الدولية والنماذج المتقدمة للغاية ويبدأ منها، ويسعى إلى أن تكون الإمارات متميزة فيها وتكون لديها أعلى درجات الجودة».
ولكن ماذا عن مستوى التعامل الإنسانى مع أصدقائه وزملائه: «يقول الدكتور أنور: لدى الشيخ محمد صبر شديد مع الأصدقاء والحلفاء بعدما يكونون قد اكتسبوا الثقة، لذلك إذا أعطى الثقة عن تجربة لا يفرط فيها، لأنه يتسم بصفة الوفاء وعدم التخلى عن الأصدقاء والحلفاء».
ويختتم الدكتور قرقاش قوله: فيما يختص بمبادرة السلام مع إسرائيل، فإن منهج الانطلاق فيها هو فكر الرجل الاستراتيجى والمتعقل الذى يضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار، لذلك كان حريصاً بحسه الوطنى وفكره العروبى على أن يتخذ خطوة جريئة وتاريخية لصالح الإمارات ويخدم الفلسطينيين ودول المنطقة بشكل استراتيجى.
هذه الرؤية الاستراتيجية هى التى جعلت محمد بن زايد يرسل ما بين 1100 و1200 مقاتل إماراتى إلى أفغانستان، وأن يشارك فى حرب اليمن بشكل مؤثر وفعال، ويتصدى للمشروع القطرى - التركى، ويواجه الإرهاب التكفيرى من ليبيا إلى مالى، ويدعم مشروع الدولة الوطنية من مصر إلى الأردن إلى العراق، ويواجه الهيمنة الإيرانية فى الخليج، ويدعم بكرم المشروعات الإنسانية من العالم العربى إلى أفريقيا إلى آسيا.
يؤمن محمد بن زايد أن الفراغ الاستراتيجى خطر على دول المنطقة، وإن لم تملأه دولة عربية معتدلة سوف تملأه قوى غير عربية ذات أهداف شريرة.
مفتاح شخصية محمد بن زايد أنه رجل استراتيجى يعشق وطنه، محب لعروبته، وفىّ لأصدقائه وحلفائه، قوى، جادّ، صارم ضد أعدائه الذين يبادرون بالإضرار بمصالح وطنه.
باختصار شديد.. الشيخ محمد هو طبعة عصرية لمبادئ ومكونات والده المؤسس للدولة الشيخ زايد، رحمه الله.
يدرك محمد بن زايد أن بلاده الآن بعد الاتفاق الثلاثى انتقلت من دولة مساندة مهمة إلى دولة رئيسية جوهرية فى شئون المنطقة.
ويدرك أيضاً، منذ أن رسم خطوط هذا التحول الاستراتيجى، أن مكانة وتأثير بلاده داخل أماكن صناعة القرار فى واشنطن لم تعد مكانة دولة لديها فقط فوائض مالية يتم التعامل معها كمشترٍ للسلع والأسلحة والخدمات بشروط ألا تتجاوز حدوداً معينة، ولكن أصبحت الآن ذات فعالية وقوة تأثير تجعلها تحصل على ما تريد بلا عوائق، وتقوِّى من قدراتها الدفاعية بلا شكوك.
هذه القفزة الاستراتيجية هى ضربة معلم لمصالح قطر وتركيا التقليدية فى واشنطن، وتأمين استراتيجى ضد المطامع الإيرانية.
ما قام به محمد بن زايد وإخوانه وفريق عمله هو «تغيير جذرى ومتقدم ومؤثر فى مستوى معيشة الدولة فى الداخل، وفى دورها الإقليمى ومكانتها وتأثيرها الدولى.
الإمارات الآن لاعب رئيسى فى توازنات المنطقة وفى توازنات القوى السياسية والعسكرية.
جيش الإمارات تم بناؤه بشكل حديث وعصرى، لديه كفاءة قتال ونوعية تسليح بالذات فى مجال الطيران المقاتل تجعله قادراً على الدفاع عن أمن البلاد.
مستوى الدخل للمواطن الإماراتى يتعدى الـ70 ألف دولار، ومستوى المعيشة من أفضل الدول، ومستوى البحث العلمى يبدأ من تحديث التعليم إلى كفاءة الرعاية الصحية إلى وجود كلية لـ«الريبوتات»، إلى وجود رائد فضاء إماراتى، إلى إطلاق «مسبار» لأبحاث متقدمة عن المريخ.
الرجل لا يمكن له أن يضحى بحلفائه معها كانت المصاعب والتحديات، وذلك لتركيبة الوفاء الإنسانى ولحسن اختياراته الاستراتيجية فى التحالف مع مصر والسعودية اللتين يرى -وطنياً- أنه لا بديل عن تحالف بلاده معهما.
هنا بعدما عرضنا لمفاتيح شخصيات الرئيس السيسى، ومحمد بن سلمان، ومحمد بن زايد فى الحرب والسلام، نسأل: كيف استطاعت مكونات كل منهم أن تبنى نواة حلف الاعتدال العربى القائم على العمل الجاد، البعيد عن الشعارات والعنتريات لتحقيق المصالح الوطنية العليا لبلادهم وللمنطقة العربية؟
غداً.. بإذن الله نصل إلى الخلاصة.