بقلم - مصطفى الفقي
سوف يظل الثالث والعشرون من يوليو 1952 يومًا مفصليًا فى تاريخنا الحديث، يثور حوله الجدل وتختلف عليه الآراء، فالأغلب الأعم يراه يومًا للتحرر الوطنى وبداية الإطاحة بالحكم الملكى وتحول مصر للنظام الجمهورى ويتحدثون عن مآثره بدءًا من الإصلاح الزراعى اقتصاديًا واجتماعيًا مرورًا بتأميم قناة السويس سياسيًا ووطنيًا وصولًا إلى بناء السد العالى كمشروع قومى التف حوله المصريون وأسرفوا فى الإشادة بمزاياه، بينما وقف فريق آخر يرى أن ذلك اليوم شديد الأهمية أيضًا، ولكن لأسباب أخرى فهو اليوم الذى تبدلت به الأحوال، وتغيرت الظروف، وكان إيذانًا بعملية انقطاع كاملة وانفصال حدى عن الماضى بكل ما له وما عليه حتى توهم الكثيرون أن تاريخ مصر يبدأ بذلك اليوم وأن ما سبقه كان فسادًا وتخلفًا وانهيارًا وأن ما أتى بعده كان صحوة وطنية وحركة شعبية ظن بها المصريون أن التاريخ يبدأ من تلك اللحظة، ولا شك أننا إذا سعينا إلى الوصول لنظرة موضوعية شاملة فإن علينا أن ندرك أن الأمم أكبر من الثورات وأن الشعوب أبقى رغم التحولات، ولعل ذلك اليوم المفصلى الذى يقف فى أهميته مع أيام أخرى كانت فاصلة فى تاريخنا كله يمكن تحليل نتائجه من خلال العناصر الآتية:
أولًا- إن معيار الحكم على الثورة- أى ثورة- يكون بحزمة الإصلاحات المرتبطة بها والناجمة عنها، ونحن لا ننكر على ثورة يوليو 1952 إيجابيات كبيرة من بينها سياسة التحرر الوطنى والاتجاه الجاد نحو التصنيع والإصرار على تحقيق العدالة الاجتماعية فضلًا عن تبنى سياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابى، وإن كان هناك من يرى أن الإصلاح الزراعى قد أدى إلى تفتيت الملكية وحرم المصريين من الاستخدامات الحديثة للإنتاج الكبير، فى ظل الملكيات الأكبر، كما أن الأحوزة العمرانية داخل تلك المساحات قد خضعت لقوانين الإسكان الجديدة وشجعت من حيث لا ندرى على تبوير الأرض الزراعية وتآكل مساحات واسعة منها خصوصًا فى منطقة الدلتا.
ثانيًا- إن مجتمع النصف فى المائة وسيطرة الإقطاع ورأس المال على مقدرات الحكم لا تكفى وحدها لكى تكون مسوغًا لمحاولة تغيير شكل الدولة، إنما هناك أسباب أكثر عمقًا تتصل بتردى الأوضاع السياسية وعجز الظروف الاقتصادية فضلًا عن غياب العدالة الاجتماعية، وهنا تصبح الثورة أمرًا محتملًا، ولكن لا بد أن يقترن بها برنامج إصلاحى طويل المدى يستطيع أن يضع الدولة بشكلها الجديد فى إطار يسمح لها بالانطلاق نحو أهداف أبعد وغايات أكبر، ولا شك أن الوضع المصرى العام عشية ثورة يوليو 1952 كان يوحى بأن تغييرًا قادمًا، لا بد أن يحدث وأن الملك وحاشيته أصبحوا يمثلون مظهرًا واضحًا للفساد والعبث بمقدرات البلاد لذلك جاءت استجابة الجماهير المصرية للبيان الأول للثورة مؤيدة ومرحبة ومباركة لتلك الحركة التى قام بها الجيش لدفع مصر إلى الأمام والتخلص من كل المعوقات السياسية والاقتصادية فضلًا عن حالة الجمود فى علاقات القاهرة العربية والدولية بعد حرب فلسطين وقيام دولة إسرائيل.
ثالثًا- إن زعامة عبدالناصر ودوره القومى قد لعبا دورًا حاكمًا فى أحداث تلك الفترة، فلقد كان هوس الجماهير العربية بنداءاته القومية تجديدا لروح الأمة، ولكننا لا ندعى فى الوقت ذاته أن كل ما جرى فى تلك الفترة كان تعبيرًا عن آمال الشعب خصوصًا أن إيقاع الأحداث كان يبدو سريعًا، ولا يتيح للقوى المختلفة أن تشارك فيما يدور باستثناء سياسى، مثل «على ماهر باشا» الذى نصب «فاروق» ملكًا عام 1936 وهو أيضًا الذى جرده من ذلك التكريم عام 1952، ولا بد أن أعترف هنا أن مصر كانت تمثل نموذجًا لكل المشكلات بصورة دفعت بالكثير من أبنائها إلى الترحيب بالثورة وشبابها من الثوار الذين يرون فيما يفعلون فتحًا لأبواب المستقبل وحماية للحقوق المستقرة للمجتمعات المختلفة، وقد كنا نتوقع من ثورة عام 1952 أن تتمكن من الدفع بحزمة من الإصلاحات الواقعية التى تنهض بالبلاد بعد عقود طويلة بل قرون أطول من التخلف والهوان، ولكن الذى حدث هو أن الثورة تمحورت حول عدد قليل من القضايا، وفى مربع ضيق نتيجة رواسب المعاناة من الوجود الأجنبى والمرارة من الضغط الداخلى.
إن «23 يوليو» سوف تظل علامة فارقة تنظر إليها الأجيال؛ باعتبارها تعبيرا عن إرادة المصريين فى مرحلة معينة.
وبالمناسبة، لا أزعم أن الشعب المصرى الصبور الذى يبدو مستكينًا لمن لا يعرفه هو واحد من أكثر شعوب العالم فهمًا لمسيرة الإصلاح ورغبة فيها وحرصًا عليها، لذلك لا يتوقع أحد متى يثور، ولا نعرف من الذى يجهض انتفاضته.