بقلم : مصطفي الفقي
رحل الفقيه الدستورى طارق البشرى منسحبًا من الحياة في ظل ظروف صعبة على البشرية كلها، فهو سليل بيت علم ودين، ومثقف رفيع الشأن، ومؤرخ لا يشق له غبار، عرفته في سبعينيات القرن الماضى من خلال صديق مشترك نعتبره من أساتذة الدبلوماسية العظام وهو السفير شكرى فؤاد ميخائيل، وكان طارق البشرى وقتها في قمة تألقه عندما أصدر كتابه الشهير عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، والذى كان ولايزال وسوف يظل مرجعًا لمن يكتبون في هذا الشأن، وعندما ترجمت رسالتى للدكتوراة (حول الأقباط في السياسة المصرية) من الإنجليزية إلى العربية، لم أجد أفضل من المستشار طارق البشرى ليكتب لى المقدمة باعتباره الرائد في هذا الاتجاه منذ ثورة عام 1952، ولقد كان محققًا دقيقًا وقاضيًا عادلًا غاص في تاريخ مصر الحديث ووضع يده بذكاء على نقاط التحول وبدايات التغيير، ولقد تشرفت مرة أخرى بالمشاركة معه في كتاب بعنوان «شعب واحد ووطن واحد» عام 1981، وسعدنا فيه بمشاركة زميل لامع له هو المستشار وليم سليمان قلادة، وقد كتب لنا مقدمة هذا الكتاب الثلاثى أستاذنا الراحل د. بطرس بطرس غالى، ولقد جرت تغييرات كثيرة في مصر، وتصارعت القوى السياسية تحت السطح، وجرت مياه كثيرة أدت إلى تحول فكرى ظاهر في التوجهات العقيدية لذلك القانونى المؤرخ، فانتقل من اليسار الوطنى إلى الإسلام المعتدل، وانعكس ذلك على أسلوب تفكيره وطريقة تعامله مع الأحداث والأشخاص.. وما زلت أتذكر واقعة لا أنساها عندما كان الرئيس الراحل مبارك يجلس على مقعد في عيادة طبيب الأسنان بالرئاسة- وهو ضابط كبير- فإذا به يفاتح الرئيس بشأن مشكلة لابنه في جامعة القاهرة، فنادانى الرئيس الراحل وقال لى: اسأل المستشار طارق البشرى- وهو المستشار القانونى لجامعة القاهرة- عن كيفية حل مشكلة الطالب ابن طبيب الأسنان الكبير، فاتصلت في الحال بالمستشار طارق البشرى الذي قال: أمهلنى ربع ساعة وأرد عليك، وبالفعل أجابنى بعد دقائق بأنه لا أحقية للطالب فيما يريد وقانون الجامعة لا يسمح بتحقيق مطلبه، وقد أبلغت الرئيس على الفور بذلك ولم يكن ضجرًا ولا مستاءً أن طلبه لم يلبَّ، بل ردد عبارات طيبة في شأن حياد طارق البشرى ونزاهته، ولكننى أتذكر بشىء من الأسى أن منصب رئاسة مجلس الدولة قد حُجب عن ذلك المستشار الجليل والمؤرخ الفذ لأسباب تتعلق بانتمائه الفكرى الذي تحول إليه في النصف الثانى من عمره.
وأتذكر أيضًا أن الدولة أجرت اتصالًا مع المستشار المحترم على الخادم الذي كان معارًا لسلطنة عمان حتى يعود إلى مصر لاستخدام أقدميته، فقد كان يسبق المستشار طارق البشرى في الترتيب، وبذلك تولى المستشار الخادم العائد من الإعارة منصب رئاسة مجلس الدولة، وأشهد أن طارق البشرى كان راضيًا ولم يأبه كثيرًا بما حدث إلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011 فتألق نجمه وتردد اسمه بين الجميع باعتباره الفقيه الدستورى الذي يمكن أن ينظر للمرحلة وأن يقنن للمستقبل، ولقد حاول الرجل جاهدًا السعى نحو الإصلاح في ظل التماسك الوطنى، ولكن التيارات المتصارعة على الساحة لم تسمح في ذلك الوقت بتحقيق الأهداف التي كان يسعى إليها ذلك المثقف المصرى الكبير.
وأتذكر أننى قد كتبت مقالًا في «الأهرام» منذ قرابة خمسة عشر عامًا، تحدثت فيه عن التحول الذي يطرأ على المفكرين الكبار نتيجة الأحداث التي يمرون بها والمواقف الجديدة التي يرونها، وضربت المثل باثنين، أولهما هو طارق البشرى الذي انتقل من معسكر اليسار إلى المعسكر الإسلامى المعتدل، والدكتور ميلاد حنا على الجانب الآخر الذي انتقل أيضًا من اليسار الوطنى إلى جانب طائفى لم يكن معروفًا عنه إلا بعد رحيل السادات حيث جرت مصالحة هادئة بين ميلاد حنا والمقر البابوى في منتصف ثمانينيات القرن الماضى. وأعود الآن إلى طارق البشرى، ذلك النجم الذي هوى ورحل من حياتنا بجسده، ولكن تبقى كتاباته وآراؤه ضياءً يهتدى به المفكرون والباحثون على الدوام.. رحمه الله وأسكنه منزلًا رفيعًا في رضوانه وعزاء لقرينته الفاضلة الكاتبة الصحفية عايدة العزب موسى وابنيه المتألقين.