بكر عويضة
«اللي راح.. راح، المهم اللي جاي»، يخبرني الصوت الآتي من غزة يحمل تساؤلات لا إجابات لها. يضيف: «خرجنا من البيت مع الساعات الأولى للهدنة صباح اليوم (الثلاثاء الماضي)، الناس تركض في مختلف الاتجاهات، البعض ذهب إلى بيت نزح عنه ليجده مدمرًا، فعاد إلى مقر اللجوء بمدرسة أو مسجد، بعض آخر راح يفتش تحت الأنقاض عن ضحايا، هناك من حرر قوائم بأسماء مفقودين قدمها لممثلي الصليب الأحمر، لا أحد يدري إن كانت الهدنة ستصمد (مدتها 72 ساعة تنتهي صباح غد - الجمعة) أم تنهار في أي لحظة، لكن سواء صمدت وجرى تمديدها لفتح أبواب التفاوض، أم انهارت فيعود دوي المدافع، يبقى السؤال هو: ماذا بعد؟ ترى، هل لديكَ أنتَ إجابة تطمئننا؟».
كيف يمكنني أن أجيب عن تساؤلات أناس تعصف بهم الحيرة، ويحاصرهم وجع الموت المتنفس بين ركام الدمار، فيضيف إلى آلام الحصار المفروض عليهم من الجهات الأربع، والذي قيل لهم إن الحرب ستفرض أن يُرفع عنهم؟ كلا، ليست لديّ إجابة جاهزة، لكنها بالطبع موجودة لدى متحدث ما باسم حركة حماس، يطل عبر الشاشة ومن خلفه ناطحات سحاب عاصمة عربية تشع بأضواء تنافس بريق مانهاتن، بينما يغرق ليل قطاع غزة بدامس الظلام. لكن، لندع السياسي وشأنه، سواء من حماس أو أي تنظيم آخر، أليس ذلك واجبه الذي يتقاضى عليه الأجر، وقد يتعرض للموت بسببه، حتى وهو يقيم بين ناطحات سحاب؟ بلى. لكن، ماذا عن محللين، منظّرين، وإعلاميين، لديهم في مثل حالة غزة، وغيرها من أزمات العالم العربي وكوارثه، إجابات جاهزة، تجد الواحد منهم يسحبها من أحد أدراج الذاكرة، فيجري عليها ما توجبه متطلبات إعادة الإنتاج، كي يتناسب ما يهدر به، مع زخم اللحظة وسخونة الحدث، بصرف النظر عمن يصيبه ألم المأساة. وهؤلاء ليسوا سواء، وما هم بتيار واحد. فالنافخون في أبواق استمرار القتال في غزة، أو غيرها، من وراء جُدر أميركا وأنهر أوروبا، يقابلهم مستخفون ليس فقط بعواطف الناس ومعاناتهم، بل بعقولهم أيضًا، أولئك يبررون لتطرف إسرائيل وعنف همجية آلتها العسكرية على نحو يضع بعضهم في خانة الوصف بأنهم أكثر تطرفًا من عتاة اليمين الإسرائيلي.
لماذا؟ ما الذي يحول دون اعتدال الموقف، واعتماد نهج موضوعي، بدل مواصلة إعادة إنتاج خطاب سياسي، أو إعلامي، تجاوزته مستجدات لم تكن قائمة عندما أنتج أول مرة؟ الأرجح أن العائق إما ناتج عن نزق يصاحبه قصور في الفهم، أو هو نتيجة ارتباط بمصالح ذاتية أو مؤسساتية. لكن المحصلة واحدة: غلو وتضليل. أتذكر كيف تعاملت بذلك النوع من النزق مع سياسي فلسطيني في بدايات الانتفاضة الأولى. كان الراحل خالد الحسن يتحدث خلال ندوة في لندن أواخر 1987 فأشار إلى ضرورة وضع تصورات لما بعد الانتفاضة، واستخدم الرجل كلمة «التعب» في سياق أن الشعب بشر وسوف يتعب في مرحلة ما، فوجدتني أقاطع قائلا: ولماذا يا أبا السعيد سرعة افتراض التعب، الانتفاضة في أول أسابيعها؟ ابتسم أحد قادة حركة فتح المؤسسين، وهو كذلك واحد من كبار المفكرين السياسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية، لكنه واصل حديثه فاستغرق يشرح لماذا أن القيادة التي لا تضع أكثر من تصور لكل مرحلة من مراحل نضال شعبها، لا تستحق أن تقود. اقتنعت بشرحه، ولما اعتذرت في ختام الندوة عن نزق مقاطعتي، أجاب خالد الحسن: السياسي الذي يخاصم صحافيا ليس سياسيًا.
إذنْ، عودة إلى سؤال مُحدثي: إلى أين تمضي غزة؟ المنطق يفترض أن السؤال موضوع على طاولات قيادة حركة حماس، إنما الأهم هو توفر الجواب على الأرض. ترى، هل تقنع حماس بمشاركة الحكم مع حركة فتح والفصائل الأخرى، أم أن منطق الاستفراد، ولو بحكم قطاع غزة فقط، هو الذي سيسود؟ منطلق السؤال هو وجود أكثر من تيار داخل الحركة، وثمة من يرجح أن الجناح العسكري لن يقبل بأي تنازل عن إحكام السيطرة على القطاع. رُبّ قائل: لكن قيادة حماس ملتزمة بتوقيع اتفاق مصالحة مع السلطة في رام الله؟ والرد أن ذلك صحيح، لكن يمكن القول أيضا إن الاتفاق أصبح جزءًا من مرحلة طوتها التطورات التي بدأت بخطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم ولم تنتهِ بعد، رغم مقتل ما يقرب من ألفي فلسطيني. هل ثمة مبالغة في القول إن بيد حركة حماس أكثر مما بأيدي غيرها مفاتِح تحقيق نتيجة لحرب 2014 أبعد من مجرد بلاغة البيانات؟ كلا، لستُ أعتقد أن في ذلك أي مبالغة، إنما الأمر يتوقف على مدى الاستعداد للتضحية بمكاسب حماس الفصائلية لصالح جماهيرها أنفسهم ومعهم كل الفلسطينيين. الأمر في غاية البساطة: مفاوضات القاهرة توفر فرصة أمام قيادة حماس لتبرهن بشكل ساطع أنها تضع الصالح العام قبل أية مصالح فصائلية. نعم، بوسع حركتي حماس والجهاد إعلان تفويض مطلق الصلاحيات لرئاسة الوفد الفلسطيني الموحد، كي ينتزع من تل أبيب كل ما يحقق مطالب الحركتين، ومعهما بقية التنظيمات، والفلسطينيون كلهم أجمعون، بدءاً بمطلب رفع حصارات المعابر كافة، وإقرار خارطة طريق فلسطينية بلا أية عقبات تتيح البدء من جديدة بتفاوض جاد مع الجادين من ساسة إسرائيل للتوصل برعاية دولية جادة أيضاً، إلى حل يعيد للفلسطينيين والإسرائيليين الأمل بإمكانية أن تتسع الأرض للجميع. حقا، هذه فرصة إن ضُيّعت فربما لا تُعوّض. ترى، أمستحيل هذا على مَنْ بأيديهم مسؤولية مستقبل شعب أثبت أنه قادر على البقاء رغم كل مستحيل؟!