بالرغم من أن تعديلات قانون الاستثمار تتعلق بمجمل الاستثمارات، فإن البعض ركز بصورة أحادية على تحليلها من منظور الاستثمارات غير المصرية بحيث بدا الأمر وكأن التعديلات تتعلق فقط بالاستثمارات العربية والأجنبية،رغم أن الأصل دائما هو الاستثمارات المحلية التي هي الأساس في بناء أي دورة للنمو والازدهار الاقتصادي، والتي ينظر إليها المستثمر غير المصري باعتبارها النموذج العملي الذي يمكن أن يشجعه على دخول السوق المصرية أو يجعله يحجم عن ذلك.
وكان قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي عام 1974 يعطي ميزات خاصة للعرب والأجنب على حساب المصريين إلى أن تم تدارك ذلك بعد ثلاثة أعوام.
وينبع هذا التركيز من البعض من منظور اتكالي يتصور أن من سيغير مصير ومسار الاقتصاد المصري هو الاستثمارات الأجنبية وليس استثمارات أبناء مصر. ينبغي إنهاء هذه النظرة الاتكالية المنتشرة في مصر فيما يتعلق باستقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي تقوم على أساس أن تقديم الإعفاءات الضريبية أو تخفيض معدلات الضريبة (الحوافز المالية) هى التى ستجذب هذه الاستثمارات التى يتم التعويل عليها كثيرا فى تحقيق دورة من النمو السريع الذى يقود للازدهار الاقتصادي، وهذه النظرة تتجاهل أهمية حالة الاقتصاد والمؤشرات الرئيسية المعبرة عن أدائه وانفتاحه على العالم، وحالة المجتمع ودرجة انفتاحه وتقبله للأجانب، وحالة السوق المحلية ودرجة احترامها لقواعد بناء الأسواق وتوسيعها أو ما يسمى بحوافز السوق، باعتبارها العوامل الحقيقية التى تجذب الاستثمارات الأجنبية إلى أى اقتصاد نام ومزدهر من أجل أن تلتحق بدورة ازدهاره، وتشارك فى قطف ثمارها من خلال مشروعات مفيدة للطرفين.
وقضية استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من أكثر القضايا التي تسود بشأنها أحكام انطباعية وتصورات غير واقعية، فالبعض ينظر إليها بشك كبير انطلاقاً من اعتبارات أيديولوجية وسياسية، والبعض يبني موقفه منها انطلاقاً من تجربتها الواقعية في مصر، ويخرج بتعميمات سلبية تغلق الباب أمام إمكانية تطوير تجربة جذب هذه الاستثمارات، والبعض الآخر ينظر إليها على أنها المبتغى وأنها هدف في حد ذاتها دون وضع ضوابط تضمن توظيفها كآلية للتحديث التقني والإداري وإيجاد فرص العمل وتطوير القطاعات الأكثر أهمية للمجتمع ولقدرات الاقتصاد وبالذات الصناعة التحويلية وزيادة الناتج وتحسين مستويات المعيشة.
ومن أهم النتائج التى خرجت بها الدراسات العلمية لطبيعة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى تتوجه إلى أى بلد، أنها تعيد إنتاج النمط الرأسمالى القائم فى البلد الذى تتوجه إليه، وليست معنية أصلا بإصلاح هذا النمط، فإذا وجدت صناعات متكاملة وتركيزا على الصناعات عالية التقنية والصناعات التصديرية المستندة إلى قدرة تنافسية عالية من زاويتى الجودة والسعر الذى يكون منخفضا بسبب قبول المنتجين والمصدرين بهوامش ربح معتدلة، فإنها تسير على الدرب نفسه، أما إذا وجدت نشاطات طفيلية وتضخما فى الاقتصاد الرمزى و«صناعات» تجميعية بائسة فإنها تقوم بنفس الأنشطة وبتجميع منتجاتها التى أنتجت أجزاؤها خارج مصر. وإذا وجدت مغالاة فى معدل الربح واستغلال المستهلك بفرض أسعار تنطوى على أرباح استغلالية واحتكارية، فإنها تفعل الشيء نفسه، وإذا وجدت فساداً فى بيع شركات القطاع العام بأقل كثيرا من قيمتها، من خلال برنامج الخصخصة، فإنها تدخل لعبة الفساد للحصول على شركات القطاع العام بأقل من قيمتها كثيرا، كما يتضح من عمليات خصخصة شركات المراجل البخارية والأسمنت والمياه الغازية والفنادق والبنوك وعمر أفندى والزجاج المسطح وغيرها من الشركات. وإذا وجد المستثمرون الأجانب أن الرأسمالية المحلية تقوم بدفع ما عليها من ضرائب وفق معدلات عادلة، فإنهم يفعلون الشيء نفسه غالباً، أما إذا وجدوا الإعفاءات الضريبية العشوائية والمفرطة والغبية، فإن إدراكهم لطبيعة وجدارة السوق المحلية يكون سلبيا باعتبار أنها تغطى وضعيتها المتدنية من خلال الإفراط فى الإعفاءات المبالغ فيها أو المعدلات الضريبية شديدة التدني. وإذا وجدوا أن التفنن فى التهرب الضريبى وتزوير نتائج الأعمال للتهرب من الضرائب هو السائد لدى الرأسمالية المحلية، فإنهم يفعلون الشيء نفسه....باختصار يعيد المستثمرون الأجانب إنتاج النمط الرأسمالى القائم فى البلد الذى يضخون استثماراتهم إليه، وهو ما حدث فى مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى وحتى الآن.
وبعد قراءة الصيغة النهائية لمشروع قانون الاستثمار، هناك العديد من الجوانب الإيجابية الفارقة فى التعديلات المقترحة، وهناك جوانب أخرى تستحق المراجعة قبل إصدار القانون النهائى رسميا. ولعل أهم الجوانب الإيجابية هى تلك المتعلقة بتطوير نظام الشباك الواحد لتسهيل إجراءات تأسيس الأعمال والحصول على التراخيص. وهذه التطويرات المهمة تحتاج لكى تكون أكثر إحكاما لمنظومة صارمة لضبط أداء المندوبين الذين تفوض لهم سلطة إنهاء الإجراءات واستصدار التراخيص، وأيضا رقابة ذمتهم المالية حتى لا تكون سلطاتهم الواسعة بوابة للتربح والفساد.
وقبل القراءة التحليلية لمشروع قانون الاستثمار لابد من الإشارة إلى أن غالبية بنوده موجودة فى قوانين سابقة، ولابد من الإشارة ايضا إلى المبادئ العامة المطلوب تجسيدها فى اى قانون لتوفير البيئة التشريعية الملائمة لاستنهاض الاستثمارات المحلية وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية.
عوامل استنهاض الاستثمارات المحلية وجذب الأجنبية
تشير الخبرات التاريخية إلى أن العوامل الأكثر أهمية فى استنهاض الاستثمارات المحلية وجذب الاستثمارات الأجنبية لأى بلد هى حوافز السوق. وتتمثل حوافز السوق فى وجود تشريعات مواتية ومتوازنة تطبق على الجميع على قدم المساواة وتشجع العمل والإنتاج وتسهل إجراءات تأسيس الأعمال والتخارج منها وتقلل الزمن اللازم لذلك بصورة توفر الوقت والجهد وتغلق الكثير من أبواب الفساد الذى تتزايد فرصه كلما تعقدت الإجراءات البيروقراطية. كما تتمثل فى وجود حماية لحقوق الملكية الفكرية وتضبط المواصفات القياسية للسلع لضمان عدالة المنافسة. كما تتمثل فى إدارة عالية المرونة والكفاءة والنزاهة تضمن تطبيق تلك التشريعات بصورة عادلة وبدون مدفوعات غير مرئية تضيف أعباء مالية على المستثمرين بصورة فاسدة. وتتضمن حوافز السوق للمستثمرين الأجانب وجود دورة ازدهار اقتصادى محلى ونمو وتنوع وحراك فعال وقدرة تنافسية عالية فى الدولة التى ترغب فى جذب الاستثمارات الأجنبية سواء كان ذلك من خلال الاستثمارات الحكومية كما هو الوضع فى الصين وفيتنام، أو من خلال القطاع الخاص المحلى كما هو الوضع فى تايوان (إقليم صيني) وتركيا وتايلاند والبرازيل وإندونيسيا وغيرها من الدول.
كذلك فإن حوافز السوق تتضمن انفتاح الاقتصاد المحلى على العالم لضمان سهولة الحصول على السلع الأولية والوسيطة من جهة، وضمان سهولة التسويق الخارجى للسلع المنتجة من جهة أخرى. كما تتضمن ارتفاع مستوى الشفافية وتوافر آليات شعبية ورسمية فعالة لمكافحة الفساد. كما تشمل توافر قوة العمل متنوعة المهارات وبأجور تمكن من يوظفها من الإنتاج بشكل تنافسي، وفى هذا الشأن تتمتع مصر بميزة تنافسية متميزة فى الوقت الراهن. كما تتضمن حوافز السوق توافر الشريك المحلى الكفء الذى يحترم حقوق شريكه الأجنبي. كذلك فإن حوافز السوق تشمل وجود نظام فعال لمنع التهرب الضريبى حتى يعمل كل المستثمرين فى ظروف عادلة ومتساوية، وتوفر نظاما صارما لمنع التهريب السلعى حتى تكون هناك فرصة عادلة للمنافسة على أسس واضحة. وبالإضافة إلى كل لابد من وجود عملة مستقرة سواء تم ذلك من خلال تسعير تحكمى متغير، أو أن يتم تحقيق الاستقرار للعملة من خلال آليات السوق بما يتطلبه الاستقرار فى هذه الحالة من توازن فى الموازين الخارجية ومن توافر احتياطيات كبيرة من العملات الحرة من خلال تراكم الفوائض فى الموازين الخارجية وليس من خلال القروض.
وعلى الصعيد السياسى فإن وجود نظام سياسى مستقر وديمقراطى يتضمن توازنا بين السلطات وفصلاً بينها وتداولاً حقيقيا للسلطة، ويتضمن مساواة حقيقية بين كل أبناء الوطن أمام القانون بغض النظر عن النوع والأصل العرقى والمكانة السياسية والاجتماعية، هى أمور بالغة الأهمية فى تحسين مناخ الاستثمار. وفى نفس السياق فإن توفر الأمن المبنى على احترام القانون وتطبيقه على الجميع، والمؤسس على قواعد العدالة والتراضى وليس القمع، يعد شرطاً مواتيا لتدفق الاستثمارات الأجنبية لأى بلد فى العالم، كما أن حوافز السوق تشمل وضع السياسات المالية والنقدية المرنة والمتنوعة والمتحيزة للقطاعات الأكثر أهمية وأولوية، وإدارتها بكفاءة فى إطار سياسة اقتصادية كلية تدفع فى اتجاه تأسيس دورة من النمو والازدهار الاقتصادي. ومن المهم أن تكون تلك السياسات قادرة على حفز الادخار وإنعاش الاستثمارات الصناعية الحقيقية وليس «صناعات» التجميع، وتشجيع الاستثمارات الزراعية والخدمية المتطورة والمتكاملة والقادرة على المنافسة محليا ودوليا. ولا تشكل طبيعة المالك لتلك الاستثمارات أى فارق فيمكن أن يكون القطاع الخاص الكبير أو المتوسط أو التعاونى أو الصغير أو الدولة نفسها وفقا لنموذج الدولة المالكة، أو لنموذج الدولة المقاول التى تؤسس المشروعات ثم تبيعها بدون فساد فى إطار نظام ديمقراطى كامل يضمن توفر آليات النزاهة والشفافية والمحاسبة. وإذا تم تأسيس مثل هذه الدورة من الازدهار الاقتصادى محليا، فإن الاستثمارات الأجنبية التى ستأتى إلى الاقتصاد المحلى ستعمل بنفس الطريقة وستؤسس مشروعات جديدة منفردة أو بالمشاركة مع المستثمرين المحليين فى المجالات التى اعطتها الحكومة المصرية أولوية وتحيزت لها السياسات المالية والنقدية.
كذلك فإن بيئة الاستثمار المواتية محليا ودوليا تتطلب ضرورة تطوير السياسة المصرفية المصرية لتتحول إلى الانحياز لصغار ومتوسطى المقترضين، بدلا من تركيز غير معقول فى القروض لكبار المقترضين وما نتج عنه من مستوى بالغ الخطورة من الديون المعدومة أو المشكوك فى تحصيلها، وتسويات مهدِرة للمال العام مع كبار المقترضين المتعثرين. وهذا التطوير فى السياسات لابد أن يرتبط بتحصين اللوائح والقوانين من أى اختراق من السلطات السياسية، لأن أى نظام اقتصادى يفقد مصداقيته عندما يسمح باختراق القوانين.
كما أن تلك البيئة الاستثمارية المواتية تتطلب وضع ضوابط صارمة لمنع غسيل الأموال المحلية ومنع دخول القادمين من عالم الاقتصاد الأسود ممن يعملون فى تجارة الآثار والمخدرات والأسلحة والفساد ونهب المال العام وغيرها من النشاطات غير المشروعة، إلى الاقتصاد المشروع قانونيا، لأن هؤلاء القادمين من عالم الاقتصاد الأسود فوق عدم مشروعية ثرواتهم، يعملون وفقا لثقافة »الخبطة« والمبالغة فى معدلات الربح التى لا تبنى سوقاً ولا تطور اقتصاداً.
وتتطلب البيئة الاستثمارية المواتية ضرورة مراعاة الاعتبارات الصحية فى الكثير من المنتجات الصناعية والزراعية، لتحسين قدرة مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية والتصدير، ولتحسين سمعة المنتجات المصرية فى الداخل والخارج. وهناك ضرورة لتطوير نظام التعليم والتدريب لقوة العمل المصرية بصورة متوافقة مع احتياجات سوق العمل بما يوفر الجهد والمال ويعزز كفاءة وتنافسية قوة العمل المصرية.
كذلك فإن هناك ضرورة للعمل على تغيير ثقافة الاستهلاك التى لا تتناسب إطلاقا مع مستوى الإنتاج والدخول فى مصر، وهذا التغيير يتطلب تغييرا جوهريا فى سياسة أجهزة الإعلام لتخفيف إلحاحها الرهيب على المستهلكين بكم هائل من السلع والاختيارات التى تتجاوز متوسط الدخول فى مصر، بما يستنزف المدخرات المحدودة ويخرجها من معادلة تمويل التطور الاقتصادي.
ويبلغ معدل الادخار المحلى المصرى فى الوقت الراهن نحو 5.2% من الناتج المحلى الإجمالي، مقارنة بنحو 21.6% فى المتوسط العالمي، ونحو 23.8% فى الدول منخفضة الدخل، ونحو 30.9% فى الدول متوسطة الدخل، ونحو 46% فى دول شرق آسيا والمحيط الهادئ، ونحو 29.5% فى دول جنوب آسيا الأفقر من مصر بكثير، ونحو 19.8% فى دول إفريقيا جنوب الصحراء وضمنها أفقر دول العالم.
ورغم أهمية الاستهلاك كحافز للاستثمار، إلا أن الدول سريعة النمو فى شرق وجنوب شرق آسيا اعتمدت على تعبئة المدخرات فى الداخل وتمويل معدلات مرتفعة من الاستثمار، واعتمدت بشكل كبير على الأسواق الخارجية كمحفز مهم للاستثمار والنمو معتمدة على قدراتها التنافسية العالية. كما أن تحسين توزيع الدخل يساهم فى تعزيز الطلب المحلى الفعال المحرك للاستثمار والنمو الاقتصادي، مع وجود معدل ادخار معتدل، وتقليص فعال للفوائض المحولة من الرأسماليين للخارج بعد تحسين توزيع الدخل بكل الوسائل التى يمكن الاعتماد عليها فى هذا الشأن.
كما أن هناك ضرورة لتطوير اتفاقيات تحرير التجارة الخارجية مع الدول والمناطق المختلفة، بحيث تسمح بنفاذ أكبر للسلع المصنعة فى مصر لأسواق تلك الدول بما يشجع المستثمر الأجنبى على توطين استثمارات صناعية فى مصر، بحيث تتحول إلى مركز لجذب الاستثمارات الصناعية الدولية والإقليمية فى المنطقة العربية وإفريقيا.
كما أن هناك أهمية كبرى لتطوير نظام التقاضى وفض المنازعات والتحكيم التجارى بصورة شاملة تضمن سرعة البت فى مختلف القضايا وضمنها القضايا الاقتصادية. وهذا الأمر الذى من شأنه أن يعزز التنافسية الاقتصادية ويجنب النظام المالى أية هزات مالية هو فى غنى عنها.
قراءة تحليلية لمشروع قانون الاستثمار
بداية لابد أن يكون واضحا أن تحقيق النمو الاقتصادى وزيادة الناتج المحلى الإجمالى وخلق فرص العمل وتمكين البشر من كسب عيشهم بكرامة ورفع مستويات المعيشة تأتى كلها من الاستثمارات الجديدة أو التوسع فى الاستثمارات القائمة أو رفع إنتاجيتها. لكن الاستثمارات الجديدة هى الأساس. ومعدل الاستثمار الراهن فى مصر الذى يبلغ نحو 14% من الناتج المحلى الإجمالى يقل عن نصف نظيره فى الدول متوسطة الدخل التى تعتبر مصر واحدة منها، وعن ثلث نظيره فى دول الشرق الأقصى والمحيط الهادى، وعن 58% من نظيره فى الدول منخفضة الدخل. وبهذا المستوى من الاستثمار لا يمكن لمصر أن تأمل فى تحقيق نمو فارق واختراق اقتصادي. وترتيبا على ذلك فإن المستقبل الاقتصادى لمصر يمر عبر بوابة حفز الاستثمارات المحلية اساسا، وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة فى المجالات التى تحتاج إليها مصر وتحديدا فى الصناعات التحويلية وخاصة الصناعات عالية التقنية.
ومن هذا المنطلق يتم تحليل ومناقشة مشروع قانون الاستثمار. ولابد من التأكيد على ما ورد آنفا فيما يتعلق بالجوانب الإيجابية القوية فى مشروع القانون وتحديدا ما يخص نظام الشباك الواحد والتيسير على المستثمرين فيما يتعلق بتأسيس الأعمال واستخراج التراخيص. كما أن غالبية المشروع بمثابة تأكيد على قوانين سابقة. وهناك العديد من المواد التى تحتاج للمراجعة وسنأخذ عددا من الأمثلة تكفى كمنهج للمراجعة المطلوبة:
فى المادة 9 يكون من حقوق المشروعات الاستثمارية الخاضعة لأحكام هذا القانون أن تستورد بنفسها أو عن طريق الغير، ما تحتاجه من آلات ومعدات ومواد خام ومستلزمات إنتاج ووسائل النقل المناسبة للنشاط، دون حاجة لقيدها فى سجل المستوردين. وهذا الأمر يعنى إفقاد الدولة سلطتها السيادية فى هذا الشأن، ولن يضير أى مستثمر فى ظل التيسيرات التى يتضمنها القانون أن يستصدر بطاقة استيرادية ويسلك الطريق القانونى المعتاد دون أى وضع استثنائى غير منطقي.
وتنص المادة 14 على أن المشروع الاستثمارى من حقه استخدام عمالة أجنبية فى حالة عدم إمكانية استخدام عمالة وطنية قادرة على القيام بنفس المهام، ولهذه العمالة الأجنبية أن تحول جزءا أو كل مستحقاتها المالية. ونظرا لأن هذه المادة لم تضع نسبة محددة كسقف للعمالة الأجنبية فى اى مشروع استثمارى فإن هذا تصريح باستخدام عمالة اجنبية بالكامل تحت أى ادعاءات من المستثمرين الذين يريدون ذلك. وهذا يفقد الاستثمارات الأجنبية احد ادوارها الرئيسية وهو خلق فرص العمل لقوة العمل المحلية وتطوير مهاراتها. ومن المهم أن توضع نسبة للعمالة الأجنبية لا تزيد عن 10% من العمالة فى اى مشروع، بحيث لا يتم جلب اى عمالة من الخارج سوى العمالة الفنية عالية المهارة غير المتوافرة فى مصر.
أما سماح هذه المادة بتحويل كامل المستحقات المالية للعاملين الاجانب فإنه ضد المنطق ويفتح الباب أمام تهريب النقد الأجنبى من خلالهم. فالمنطقى أن أى عامل أجنبى ينفق على معيشته (المسكن والطعام والشراب والملبس والرعاية الصحية والترفيه.. إلخ) نسبة من دخله ويمكن تحديدها بـ 40% من هذا الدخل، فلا يحق له بناء على ذلك أن يحول أكثر من 60% من دخله وليس كل دخله كما تنص المادة 14.
أما الفصل الثانى الخاص بالهيئة العامة للاستثمار ونظام المندوب الذى يتلقى طلبات المستثمرين ويفحصها ولديه سلطة البت فيها وإنهاء إجراءات التخصيص وإصدار التصاريح والتراخيص، فقد أفرط بداية من المادة 19 فى وصف السلطات الهائلة والمطلقة للمندوب دون أن تكون هناك كلمة واحدة عن دور الأجهزة الرقابية فى اختيار المندوبين الذين ترشحهم الجهات التى يعملون بها، ودون أن تكون هناك كلمة عن إخضاع الذمة المالية للمندوبين لرقابة دورية صارمة. وحتى صدور نتيجة التظلم من قرارات المندوب يستغرق شهرين وهو وقت طويل فى عرف الأعمال.
كما أن هذا الباب يفتح المجال لشركات سمسرة تخليص الأعمال، وهو أمر يتناقض مع روح القانون نفسه، فإذا كانت فلسفة هذا القانون هى تيسير الإجراءات على الجميع ووضع سقف زمنى لإنهائها (لم يتم تحديده بعد والمأمول أن يكون فى أقصر وقت ممكن)، فما هو الداعى لدخول شركات سمسرة التخليص؟!
وتنص المادة 30 على عدم سريان قانون المناقصات والمزايدات وهو ما يفتح الباب للإرساء أو للإسناد المباشر الذى يعد أحد بوابات جهنم للفساد. وفى نفس السياق تنص المادة 50 على أنه يجوز للهيئة العامة للاستثمار أن تتعاقد عند الضرورة لاستكمال البنية الأساسية لأراضى المنطقة الحرة غير المملوكة لها دون التقيد بأحكام قانون تنظيم المزايدات والمناقصات، أى بالإسناد المباشر. وربما يكون الإسناد المباشر فى حدود ضيقة مقبولا بين مؤسسات الدولة وبعضها البعض لأن الأموال والأصول تنتقل من جيب عام إلى جيب عام آخر، أما فى هذه الحالة فالحديث عن علاقة بين الدولة والقطاع الخاص لا ينبغى ان يكون الإرساء أو الإسناد المباشر حاضرا فيها.
وتنص المادة 31 على جواز التصرف فى الأرض اللازمة للمشروعات الاستثمارية بالبيع أو الإيجار المنتهى بالتمليك. وهذا الأمر ينبغى أن تتم مراجعته فلا ينبغى أن يكون هناك تمليك أو إيجار أو حق انتفاع للأراضى الخاصة بمشروعات التنمية الزراعية فى ظل وجود ملايين الفلاحين المعدمين وخريجى المدارس والكليات الزراعية العاطلين وهم أحق بأرض بلادهم. أما أراضى التنمية الصناعية والخدمية فإن حق الانتفاع هو الأكثر ملاءمة لها.
أما الباب الخاص بحوافز ومزايا الاستثمار الداخلى فقد أفرط فى منح الإعفاءات الضريبية والجمركية حارما الميزانية العامة للدولة من أحد مواردها المهمة، وكأنه قدر على العاملين بأجر وعلى المستهلكين أن يدفعوا هم الضرائب بينما يتم إعفاء رجال الأعمال المحليين والأجانب بصورة مبالغ فيها. وللعلم فإن عجز الموازنة العامة للدولة المخطط للعام المالى 2014/2015 يبلغ 240 مليار جنيه. كما تجاوزت الديون العامة المحلية 1816 مليار جنيه فى نهاية يونيو الماضي.
أما المادة 53 فتنص على أنه لا يجوز النزول عن أى ترخيص كليا أو جزئيا إلا بموافقة الهيئة العامة للاستثمار ويكون رفض منح الترخيص أو رفض النزول عنه للغير بقرار مسبب، ويجوز لصاحب الشأن أن يتظلم منه. وهذه المادة تخلق مشكلة كبيرة، إذا ان أى مسببات تتعلق بالأمن القومى كأن يطلب مستثمر ما أن يتنازل عن ترخيصه كليا أو جزئيا لمستثمر من الدولة الصهيونية فيكون الرفض سياسيا بصورة مباشرة بما قد يترتب عليه من ابتزاز، والأفضل أن يكون للهيئة حق الرفض بدون إبداء أسباب كجزء من السلطة السيادية للدولة وهيئاتها التى تمثلها.
أما المادة 58 فإنها تتيح التهرب الجمركى بالقانون. وفى الفصل الثالث الخاص بنظام الاستثمار بنظام المناطق الحرة فإن فيض الإعفاءات مستمر، رغم ان الهم لأى مستثمر حقيقى هو حوافز السوق التى اشرنا إليها آنفا وليس الحوافز المالية.
وهناك الكثير من الملاحظات التفصيلية الأخرى، لكن الملاحظات المذكورة آنفا تكفى كنماذج لما هو مطلوب قبل الصياغة النهائية التى ستعرض على الرئيس لإقرارها.