فى اللحظات المصيرية تظهر معادن الأمم والشعوب وقدرتها على صناعة المصير وحماية الأرض والبشر وكل مكونات الوطن. وعلى مدار تاريخها الطويل الذى يبدأ به التاريخ المكتوب للعالم، مرت مصر بلحظات مصيرية كان مستقبل الوطن كله على حد السيف، وفى كل مرة يثبت شعبها البطل أنه قادر على أن يكون لها سيفا وجدارا منيعا من بطولات البشر يدفع عنها كل معتد أثيم ويدفع بها إلى المكانة اللائقة بقيمتها وقامتها الحضارية التى تفوق كل ما عداها.
وعندما تأسست مصر كدولة موحدة قبل الميلاد بخمسة آلاف عام، لم يكن هناك أى قوى أخرى فى صورة دول، وبالتالى لم تواجه أى تهديد خارجي، ولم تنزع هى إلى الغزو والاستيلاء على أراض كانت مفتوحة أمامها لو أرادت، حيث كانت تقطنها مجموعات عائلية أو قبلية صغيرة لا قبل لها بأول دولة موحدة فى التاريخ الإنسانى هى مصر. لكن الخطر الحقيقى على الدولة التى ظلت موحدة قرابة الألف عام جاء من الداخل من طموحات الاستحواذ على الدولة من الأقاليم التى توحدت وكونتها. وتفككت مصر إلى أقاليم متصارعة لمدة ألف عام عانى فيها الشعب الأمرين من صراعات أبنائه، ثم تمكن أحد حكام الأقاليم (مينا) من إعادة توحيدها ورفعه المصريون لمرتبة القداسة.
والحقيقة أن تجربة الوحدة الأولى ثم التفكك المدمر جعلت من الدولة الموحدة ما يقرب من إله عند المصريين فهم يقبلون أى شىء إلا ما يمس وحدة الدولة التى هى رايتهم وعزهم وبناؤهم الحافظ لوحدة بلادهم.
وتعزز هذا المكون فى وجدان المصريين عندما ترهلت الدولة وضعفت فكانت النتيجة هى تعرض مصر للعدوان الاستيطانى المتسلل لقطعان الهمج القادمين من الصحراء الآسيوية المعروفين شعبيا بالهكسوس. واحتل هؤلاء الهمج مصر مدة قرنين من الزمان وأذاقوا شعبها كل صنوف الهوان. لكن المذهل أن الشعب حافظ على هويته ولم تخمد ثوراته ضدهم حتى تمكنت الأسرة الـ 17 من قيادة مصر لسحقهم ومحوهم كليا من الوجود انتقاما من تدنيسهم أرض مصر وإذلالهم شعبها.
واندفعت مصر بعد ذلك إلى خارج حدودها وسيطرت على العالم القديم كله وبلغت إمبراطوريتها ذروتها فى عهد “من خبر رع” المعروف باسم تحتمس الثالث فامتدت من قلب إفريقيا إلى كل منطقة الهلال الخصيب ومملكة خيتا مكان تركيا الحالية حيث ترك مسلته الخالدة فى مدينة جرابلس قرب الحدود التركية–السورية.
ورغم نهاية الدولة الفرعونية قبل ثلاثة قرون من الميلاد، إلا أن الشعب المصرى حافظ على وحدته متحملا دهورا من الاحتلالات الأجنبية، واستخدام أبنائه وقودا للمعارك الكبرى دون أن يحكموا بلادهم بأنفسهم. ومثل تلك التجارب يمكن أن تزهق الروح وتضيع شخصية الأمة، لكن المصريين حافظوا على هويتهم وتكوينهم الحضاري، بل واستوعبوا الغزاة فى تكوينهم الحضارى الأكثر تقدما.
وعندما أعاد ابراهيم باشا نجل محمد على بعث العسكرية المصرية قبل أكثر من قرنين من الزمن ببناء جيش من أبناء الفلاحين، أذهلوا الدنيا بانتصاراتهم الهائلة. وحققوا تلك الانتصارات فى مساحات شاسعة من قلب إفريقيا إلى المشرق العربي، وسحقوا الدولة العثمانية فى معركة قونية عام 1832 التى دمروا خلالها الجيش التركى وأسروا قائده (محمد رشيد باشا) وعقدوا بعدها صلح كوتاهية (1833) الذى عزز استقلال مصر ونفوذها فى من قلب إفريقيا إلى شمال سوريا. ومع نقض تركيا لمعاهدة كوتاهية، اندلع القتال مرة أخرى وبلغ ذروته معركة نصيبين عام 1839 التى أعاد فيها الجيش المصري، تدمير الجيش التركى واستسلم الأسطول العثمانى كاملا فى الإسكندرية، قبل أن تجتمع كل الدول الأوروبية على هدف كسر وتحجيم مصر الصاعدة للقيادة الإقليمية والعالمية.
وبعيدا عن التاريخ الطويل من الانتصارات والانكسارات فإن من يتأمل التاريخ العسكرى لمصر سيجد أنها أبهرت الدنيا وصنعت استراتيجيات عسكرية جديدة عندما خاضت حروبا هجومية امتلكت فيها زمام المبادرة، بينما كان أداؤها الدفاعى أصعب كثيرا. وربما من هذا التاريخ جاء المثل المصرى الشهير “العصا السابقة... سابقة”، أى العصا المبادرة للهجوم والضرب هى المنتصرة.
ولأول مرة منذ انهيار الدولة المصرية القديمة (الفرعونية) يصعد لقمة السلطة حاكم مصرى هو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى انتصر لقيمة الاستقلال الوطنى وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وقاد مصر لثورة التصنيع وبناء السد العالى أعظم مشروعات البنية الأساسية فى العالم فى القرن العشرين. واستطاع خلال فترة قصيرة أن يجعل مصر أكثر الدول النامية تقدما، وحاز لها مكانة قائدة إقليميا ودوليا.
لكنه فى الشأن العسكرى اتخذ قرارا كان بمثابة الكارثة وهو إغلاق مضايق تيران دون أن يدرك أن ذلك يبرر للكيان الصهيونى شن الحرب على مصر التى لم تكن مستعدة للحرب، وكان على رأس جيشها قائد محدود القدرات ومستهتر بقوة العدو وباللحظة المصيرية التى كانت مصر تمر بها. وبدلا من المبادرة بالهجوم الذى تجيده مصر تاريخيا، انتظرت مصر الهجوم الصهيونى عام 1967 وكانت الهزيمة.
وانتفض الشعب المصرى كالطوفان فى هبة اسطورية بعد خطاب تنحى عبد الناصر ليعلن رفضه للهزيمة والفشل متمسكا بأهداب الأمل، وبإيمانه الراسخ كالجبال بأن مصر بلد للنهار وليس لظلمات الاحتلال والقهر، وليعلن عزمه على مواصلة الحرب واستعادة الكرامة والأرض، وليؤكد على أن عبد الناصر هو من سيقود الشعب فى تلك الحرب. وأعادت مصر بناء جيشها بصورة عالية الكفاءة وخاضت واحدة من أنبل حروبها على مر تاريخها وهى حرب الاستنزاف وأهدت الإنسانية بعضا من عظماء الفداء والتحرر الوطنى وعلى رأسهم الفريق عبد المنعم رياض، والعميد إبراهيم الرفاعى أسد الصاعقة وفخر العسكرية المصرية على مر العصور. لكنها وهى تخوض تلك الحرب كانت لابد أن تتبنى سياسة اقتصادية تمكنها من تمويل الحرب والوفاء باحتياجات الشعب فى آن، فماذا فعلت مصر لتحقق ذلك الهدف الثقيل باقتصادها العام وبسواعد وعقول وأموال شعبها؟
اقتصاد مصر فى مواجهة خسائر يونيو 1967
كانت مصر كنمر هائل يلعق جراح الهزيمة ويستعد لخوض معركته الآتية بلا ريب. وكانت قد تعرضت لخسائر عسكرية واقتصادية هائلة تتطلب جهدا استثنائيا لتعويضها. وكان عليها القيام بجهد كبير لتمويل الانفاق العسكرى سواء فى صورته الجارية أو فى صورة شراء الأسلحة وإعادة بناء وتطوير البنية الأساسية العسكرية التى دمرت أو تعرضت لأضرار فادحة فى حرب 1967.
وقد قدر رئيس وزراء مصر الأسبق د. عزيز صدقى تلك الخسائر بنحو 11 مليار جنيه مصرى أى نحو 25 مليار دولار بأسعار تلك الفترة حيث كان الجنيه المصرى يساوى نحو 2.3 دولار فى الفترة ما بين حربى يونيو 1967 ، وأكتوبر 1973. وتمثلت الخسائر الرئيسية للاقتصاد المصرى بسبب حرب يونيو 1967 فيما يلى:
1- فقدت مصر 80% من معداتها العسكرية (2) وكان عليها أن تعيد تمويل شراء معدات عسكرية بديلة وهى تكلفة اقتصادية هائلة كان على الاقتصاد المصرى أن يتحملها.
2- فقدان سيناء بثرواتها البترولية والمعدنية وامكانياتها السياحية، وهى ثروات كان من الممكن اعتبارها مفقودة مؤقتا لو أن إسرائيل احترمت الاتفاقيات الدولية ولم تستنزف ثرواتها، لكن الذى حدث هو أن إسرائيل نهبت بصورة لصوصية دنيئة ثروات سيناء وبالذات نفطها، وهو ما يعنى أن مصر فقدت بشكل نهائى جزءا من الثروات الطبيعية فى سيناء بعد حرب 1967.
3- فقدت مصر إيرادات قناة السويس التى كانت قد بلغت نحو 95.3 مليون جنيه عام 1966 أى نحو 219,2 مليون دولار توازى نحو 4% من الناتج المحلى الاجمالى فى ذلك العام. وفضلا عن هذا الفاقد فى الايرادات فإن الخسائر الناجمة عن العدوان الإسرائيلى على منشآت قناة السويس قاربت المليار جنيه أى نحو 2300 مليون دولار بأسعار ذلك الحين.
4- فقدت مصر جانبا هاما من الايرادات السياحية يقدر بنحو 37 مليون جنيه سنويا توازى قرابة 84 مليون دولار فى ذلك الحين.
5- فقدت مصر قدرا من مواردها البشرية التى تعتبر العنصر الأكثر حيوية فى تحقيق التنمية الاقتصادية . كما فقدت فى الحرب أصولا انتاجية تم تدميرها أو تعطيلها بشكل دائم أو مؤقت ، حيث حدث تدمير فى 17 منشآة صناعية كبيرة وبلغت قيمة الدخل المفقود نتيجة تعطل هذه المصانع نحو 169.3 مليون جنيه مصرى، أى نحو 389.4 مليون دولار بأسعار ذلك الوقت. وبالاضافة لكل تلك الخسائر تعرضت مصر لدمار كبير فى المنشآت الاقتصادية والأصول العقارية فى مدن القناة التى تعرضت للعدوان والتدمير بشكل مكثف.
وإذا كانت هذه هى العناوين الرئيسية للخسائر الاقتصادية لمصر بسبب العدوان الإسرائيلى عليها عام 1967 ، فإن اقتصاد مصر المثقل بتلك الخسائر كان عليه القيام بمهمة كبرى لتمويل تعويض الخسائر الاقتصادية المباشرة وتمويل تعويض خسائر المعدات والبنية الأساسية العسكرية وتمويل الانفاق العسكرى عموما مع محاولة رفع القدرة على مواجهة الاستهلاك المحلى لتقليل الواردات المدنية أو ابقاءها عند مستوياتها دون زيادة، لتوجيه حصيلة مصر من النقد الأجنبى لتمويل الواردات من المعدات العسكرية.
سياسات إدارة الاقتصاد بين الحربين
أدركت القيادة المصرية أنها تدير اقتصاد حرب بالمعنى الحقيقى للكلمة فاتبعت السياسات اللازمة لذلك إلى حد بعيد. وتجسد ذلك فى فرض ضرائب جديدة وزيادة معدلات الضرائب القائمة، وذلك لزيادة الايرادات العامة الضرورية لمواجهة التزايد السريع فى الانفاق العام اللازم للاستعداد لخوض جولة جديدة من الصراع العسكرى مع الكيان الصهيوني.
وقد جاء التزايد فى حصيلة الضرائب من الضرائب غير المباشرة والجمارك، حيث ارتفعت حصيلتهما من 442.5 مليون جنيه عام 69/1970 إلى نحو 574.7 مليون جنيه عام 1973 ، وشكلت حصيلتهما نحو 63.4% من اجمالى حصيلة الضرائب عام 69/1970 ، أرتفعت إلى نحو 69.1% فى عام 1973. وبالمقابل بلغت حصيلة الضرائب المباشرة نحو 255 مليون جنيه عام 69/1970 بما يوازى 36.3% من إجمالى حصيلة الضرائب فى ذلك العام، ولم تزد حصيلة الضرائب المباشرة عن 257.5 مليون جنيه عام 1971 بما يوازى نحو 30.9% من إجمالى حصيلة الضرائب فى ذلك العام. ولأن الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات يتحملها السواء الأعظم من الشعب ، فانه يمكن القول أن القطاعات العريضة من أبناء الشعب هى التى تحملت عبء تمويل الاستعداد لمعركة أكتوبر فى الفترة ما بين الحربين. وكان الشعب الثائر لوطنه وكرامته يقدم التضحيات دون حساب.
كما تزايد إصدار البنكنوت كآلية لتمويل الانفاق العام فيما يعرف بالتمويل بالعجز. فقد ارتفع حجم وسائل الدفع من 397.2 مليون جنيه فى يونيو 1960 إلى 761.5 مليون جنيه فى يونيو 1970 ثم إلى 866.6 مليون جنيه فى يونيو 1972 بنسبة نمو سنوية تقترب من 10%, كما زادت قيمة أذون الخزانة من 164 مليون جنيه فى العام المالى 59/1960 إلى نحو 375 مليون جنيه عام 69/1970 ، ثم إلى 459 مليون جنيه فى عام 1972.
وتلك السياسة النقدية المتمثلة فى التمويل بالعجز تعتبر عاملا رئيسيا مغذيا للتضخم. وكان التضخم مكبوتا فى الفترة ما بين حربى 1967, 1973 بسبب سياسة التسعير الجبرى للسلع الأساسية، لكنه انفجر فيما بعد حرب أكتوبر 1973 مع تخفيف سياسة التسعير الحكومى للسلع باتجاه إلغائها.
كذلك تميزت السياسة الاقتصادية المصرية بين الحربين باعطاء أولوية للاستثمارات التى تخدم المعركة على كل ما عداها من استثمارات. وتميزت أيضا بالذات من بداية عام 1972، بايقاف استيراد السلع الكمالية، حيث صدر قرار بحظر استيراد تلك السلع ومن بينها الملبوسات والأقمشة الصوفية الفاخرة وأجهزة التليفزيون والراديو والسجائر والثلاجات والغسالات والسجاد الفاخر.
كما تقرر زيادة الرسوم الجمركية على السلع الكمالية الواردة للاستعمال الشخصى بنسبة 50%. كما تم قصر تجارة الجملة فى المواد والسلع التموينية الأساسية على القطاع العام. وكان الهدف من ذلك هو منع أى تلاعب فى تلك السلع وضمان وصولها إلى جماهير الشعب بأسعار مقبولة باعتبار أن توفيرها عنصرا مهما فى تحقيق الاستقرار السياسي.
وإذا كان القطاع العام قد قام بالدور الرئيسى فى تمويل الاستعداد للمعركة، فان القطاع العائلى الذى كان مهيمنا فى مجال الزراعة وفى الكثير من الخدمات قد ساهم بدوره بشكل فعال فى دعم استعدادات مصر للحرب سواء من خلال ما تحمله من ضرائب أو من خلال مساهمته الفعالة فى الانتاج والتنمية فى تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر.
لكن القطاع العام وقاعدته الصناعية الثقيلة كان لهما الفضل الأكبر فى انجاز استعدادات مصر لحرب أكتوبر بعد هزيمة 1967 .
الأداء الاقتصادى من «يونيو» إلى «أكتوبر»
لم يكن الانفاق الدفاعى فى مصر يتجاوز5.5% من الناتج المحلى الاجمالى فى المتوسط السنوى خلال الفترة من 1960 – 1962. وبعد هزيمة 1967 ارتفع إلى أضعاف هذا المعدل وبلغ فى ذروة عمليات شراء الأسلحة للاستعداد للحرب نحو 21.7% من الناتج المحلى الاجمالى المصرى عام 1971. واستمر قرب هذا المستوى حيث بلغ نحو 20% من الناتج المحلى الاجمالى المصرى عام 1973.
ويمكن القول أن خمس الناتج المحلى الاجمالى المصرى على الأقل ، قد تم توجيهه لتمويل الانفاق الدفاعى المصرى منذ حرب الاستنزاف وحتى حرب أكتوبر 1973. ومن البديهى أن اقتطاع ذلك الجزء الهام من الناتج المحلى الاجمالى لتمويل الانفاق الدفاعى الضرورى للغاية من أجل معركة استعادة الأرض والكرامة، قد أثر على قدرة الاقتصاد المصرى على تمويل الاستثمارات الجديدة اللازمة لتحقيق معدلات نمو مرتفعة.
ونظرا لتراجع معدل الاستثمار، فإن معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الاجمالى المصرى قد تراجع بشدة. كما أدى التوسع غير العادى لنشاط الدولة ودورها الاقتصادى فى زمن الطوارىء بين حربى 1967 ، 1973 ، إلى زيادة الاستهلاك الحكومى بمعدلات مرتفعة للغاية. وقد ارتفع الاستهلاك الحكومى بشكل مطرد من 488 مليون جنيه عام 1967 إلى نحو 1077 مليون جنيه عام 1973. وهذا يعنى أنه ارتفع خلال تلك الفترة بنسبة 120.7% أو بمتوسط سنوى قدره 20.1% خلال تلك الفترة، علما بأن المتوسط السنوى لزيادة الاستهلاك الحكومى خلال الفترة من 1960 - 1966 كان نحو 18.7%، رغم أن تلك الفترة شهدت موجة هائلة من الاستثمارات الحكومية فى بناء القطاع الصناعى العام واقامة بعض مشروعات البنية الأساسية الكبرى وعلى رأسها مشروع السد العالى أعظم مشروعات البنية الأساسية فى العالم بأسره. وبالمقابل فإنه رغم التزايد السريع فى عدد السكان فإن متوسط معدل التزايد السنوى للاستهلاك الخاص خلال الفترة من 67 - 1973 قد بلغ نحو 7.6% سنويا وهو أقل كثيرا من متوسط معدل تزايده فى الفترة من 1960 - 1966 والذى كان قد بلغ نحو 10.4% سنويا، وهو ما يعكس كبح الانفاق الخاص فى الفترة ما بين حربى 1967 ، 1973 من خلال الآليات المالية حيث تم فرض ضرائب جديدة وزيادة معدلات الضرائب التى كانت مفروضة. وتلك الاجراءات لم تجد أى معارضة أو تذمر فى ظل الاحساس الشعبى العام بضرورة ترشيد الاستهلاك الخاص إلى أقصى حد وتسخير كل الامكانيات الاقتصادية المصرية من أجل خوض جولة جديدة من الصراع العسكرى مع العدو لاستعادة الأرض والكرامة.
لكن النتيجة الاجمالية لمجموع الاستهلاك الحكومى والخاص خلال الفترة من عام 1967 حتى عام 1973 كانت تزايد هذا الاستهلاك بمعدلات مرتفعة نتيجة الانفاق العام المرتفع فى المجال الدفاعى بصفة أساسية.
وفيما يتعلق بمستوى تشغيل قوة العمل فى الاقتصاد المصرى فى فترة ما بين الحربين، فإنه من المرجح أن يكون قد استمر عند مستويات قريبة من مستواه فى الستينات. وكان معدل البطالة الصريحة قد بلغ نحو 7% فى النصف الأول من الستينات, ثم ارتفع إلى 8% فى النصف الثانى من الستينات. لكن حالة التعبئة وطول فترة الخدمة العسكرية الالزامية التى استوعبت اعدادا كبيرة من الشباب، والتزام الدولة بتعيين خريجى النظام التعليمى أديا إلى انخفاض معدل البطالة فى بداية السبعينات قبل اندلاع حرب أكتوبر.
أما بالنسبة للموازين الخارجية للاقتصاد المصرى، فإنه يمكن القول أنها مضت فى مسارها الطبيعى حتى وإن كانت قد تعرضت لتغيرات مؤقتة انتهت سريعا.
ومن المؤكد أن فقدان مصر لإيرادات قناة السويس وجانبا مهم من ايرادات السياحة وجانب من انتاج البترول، قد أثر على وضع الموازين الخارجية المصرية فى الفترة ما بين حربى 1967 ، 1973. كما أن زيادة الواردات السلعية والخدمية المرتبطة بالانفاق الدفاعى قد أثرت بدورها بصورة سلبية على الموازين الخارجية لمصر.
مصر وتطورات الاقتصاد العالمى بين الحربين ؟
فى مسيرتها لتعبئة الموارد الاقتصادية من أجل الاستعداد للحرب فى فترة ما بين حربى يونيو 1967, أكتوبر 1973 ، قامت الادارة الاقتصادية المصرية بقراءة التطورات الكبيرة فى البيئة الاقتصادية الدولية لتحديد مسارات التفاعل معها بالصورة التى تعظم منفعة مصر منها أو تقلل مضارها. وكانت أهم تلك التطورات هى انهيار قاعدة الذهب واضطراب أسعار الصرف العالمية وارتفاع معدل التضخم عالميا وبالتالى ارتفاع تكلفة الواردات ، هذا فضلا عن استمرار ارتباط العلاقات الاقتصادية الخارجية بالعوامل السياسية والايديولوجية.
وقد ابتعدت الإدارة الاقتصادية المصرية بالاقتصاد المصرى عن الاضطرابات فى أسواق الصرف من خلال التأكيد على نظام سعر الصرف المعمول به فى مصر والقائم على أساس التحديد التحكمى لسعر الجنيه المصرى مقابل الدولار. وقد ساعدت اتفاقيات التجارة والدفع التى كانت مصر تنفذ من خلالها قسما كبيرا من تجارتها الخارجية، فى تقليل حاجة مصر للنقد الأجنبى.
وفضلا عن مساهمة اتفاقيات التجارة والدفع فى دعم نظام سعر الصرف فى فترة ما بين حربى يونيو 1967 ، أكتوبر 1973 ، فإن تلك الاتفاقيات أدت إلى توفير حصيلة مصر من النقد الأجنبى لأغراض تمويل الواردات من دول العملات الحرة أو من الدول التى لا توجد بينها وبين مصر اتفاقيات تجارة ودفع . وبالطبع كانت تلك الواردات فى غالبيتها الساحقة ان لم تكن كلها ضرورية لدعم استعدادات مصر لخوض معركتها ضد العدو الصهيوني.
وقد شهدت فترة ما بين حربى يونيو 1967 وأكتوبر 1973 زيادة مؤثرة فى معدل التضخم العالمى الذى ارتفع من نحو 4.2% عام 1967 إلى 4.4% عام 1968 ثم إلى 5% عام 1969 ثم إلى 6% عام 1970 قبل أن يرتفع إلى 9,4% عام 1973. وكان ذلك الارتفاع مقدمة لبداية مرحلة التضخم السريع فى العالم بعد حرب أكتوبر 1973. وعلى أى الأحوال كان هذا التزايد فى معدل التضخم العالمى يعنى ببساطة أرتفاع تكلفة الواردات المصرية من الخارج . لكن تركيز التجارة الخارجية المصرية مع الدول الاشتراكية التى كانت أسعار صادراتها شبه ثابتة وتتحرك ببطء شديد ساعد على أن تبقى تكلفة وحدة الوزن من الواردات المصرية من الدول الاشتراكية شبه ثابتة أو تتحرك ببطء شديد.
وقد تعرضت مصر فى فترة ما بين الحربين إلى ضغوط من الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية التى تهيمن عليها تلك الدول. وقد تجسدت تلك الضغوط فى التضييق على صادرات مصر إلى أسواق تلك البلدان وأيضا فى حرمان مصر من فرصة الاقتراض من أسواق رأس المال فى البلدان الرأسمالية الكبرى أو من صندوق النقد والبنك الدوليين.
وكان التعامل المصرى مع تلك الظروف والضغوط قويا وملهما، حيث ركزت مصر على الاعتماد على ذاتها بصورة أساسية فى تمويل استعداداتها للمعركة وركزت على التعاون فى مجالات التجارة والقروض والتمويل على الدول الصديقة وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى وأيضا على الدول العربية الشقيقة.
وبالنسبة للقروض السوفيتية لمصر، فإن سدادها كان يبدأ بعد عام من استكمال بناء المشروع الذى خصصت لتمويله لكى يكون الدفع من عائد الانتاج. وكانت آجال السداد نحو 12 عاما وبفائدة لا تتجاوز 2.5%. ونتيجة لذلك لم يكن غريبا أن مصر أنجزت مجمع الحديد والصلب فى الفترة ما بين الحربين رغم أن قيمته تجاوزت 165 مليون دولار، لكن القرض السوفيتى الميسر ساعد على انشائه بلا مشاكل، هذا فضلا عن القروض السوفيتية التى استخدمت فى تمويل استيراد الكميات الضخمة من الأسلحة والمعدات العسكرية.
الاعتماد على الذات ومساندة الأصدقاء الحقيقيين
يمكن القول ان مصر اعتمدت بدرجة معقولة على ذاتها فى تمويل الانفاق الدفاعى والاستعداد للحرب مدفوعة فى ذلك بطوفان من مشاعر الغضب الشعبى بسبب الهزيمة من إسرائيل فى يونيو 1967، والرغبة الشعبية فى خوض الحرب وتحقيق الانتصار على العدو الصهيونى بأى ثمن. ولذلك لم تتجاوز الديون الخارجية المدنية لمصر عند انتهاء حرب أكتوبر 1973 نحو 2.7 مليار دولار، يضاف إليها ديون عسكرية تقرب من 2 مليار دولار غالبيتها للاتحاد السوفيتى السابق.
وتلك الديون محدودة للغاية، خاصة إذا قورنت بما حصلت عليه الحكومة الصهيونية فى ذلك الحين من مساعدات خارجية. فبين عامى 1967 ، 1973 تزايدت الديون الخارجية المدنية الإسرائيلية بمقدار 4726 مليون دولار لتصل إلى 6792 مليون دولار. وهو مؤشر على حجم ما تلقته إسرائيل من قروض خلال تلك الفترة، هذا بالاضافة إلى التعويضات الألمانية والمنح الأخرى التى لا ترد. وكانت المساعدات الرسمية الأمريكية وحدها لإسرائيل قد بلغت نحو 4312 مليون دولار خلال الفترة من 1967 - 1974 منها نحو 1655 مليون دولار منح لا ترد والباقى قروض ميسرة.
ورغم الحجم الهائل للمساعدات الخارجية التى تلقتها إسرائيل بين حربى 1967, 1973 والذى بلغ عدة أضعاف حجم المساعدات التى تلقتها مصر فى تلك الفترة، فإن مصر تمكنت من خلال الاعتماد على الذات والمساعدات الأقل أن تواجه خسائرها الاقتصادية فى حرب 1967 وأن تمول الانفاق الدفاعى اللازم لتجهيز جيشها للحظة المواجهة مع العدو الإسرائيلى. وعندما حانت لحظة الصفر كان الاقتصاد المصرى رغم كل الملاحظات الواردة ضمنيا على آدائه، قد مهد الطريق للحرب تاركا إدارة المعارك وكفاءتها لقادة عسكريين على درجة عالية من الوطنية والكفاءة، وقيادة سياسية أضاعت الكثير من بطولات الجيش والشعب، سواء بقرار تطوير الهجوم بعد أن انتهت اللحظة المناسبة له مما أدى لحدوث الثغرة، أو بعدم تدمير القوات الصهيونية التى أحدثت الثغرة بكل الوسائل المتاحة والممكنة، أو بوضع 99% من أوراق اللعبة بيد الأمريكيين الذين وقفوا صفا واحدا مع الصهاينة ضد مصر فى تلك المعركة. لكن الاقتصاد فى كل الأحوال وفى حدود الإمكانيات المتاحة قام بدوره فى تهيئة مصر لخوض الحرب بصورة مقبولة، وقدم درسا فى إمكانية الاعتماد على الذات أساسا، والاستعانة بالأصدقاء الحقيقيين والأشقاء فى اللحظات المصيرية.