بقلم - مصطفى الفقي
سوف يظل اسم لويس عوض مثيرًا للجدل ومدعاة للاحترام، لقد كان ذلك المفكر المصرى الصميم ظاهرة تستحق الدراسة وتستوجب الاهتمام، ولحسن حظى أننى اقتربت منه كثيرًا فى السنوات العشر الأخيرة من حياته حتى هزمه سرطان المخ الذى دفع العقل اليقظ إلى نهايته، إن لويس عوض الذى رحل عن عالمنا فى مثل هذه الأيام منذ ثلاثين عامًا كان شخصية غير نمطية، متوقد الذهن، مشتعل الفكر لم ينجب ولكن تركت زوجته من بعده مجموعة ضخمة من القطط والكلاب، فابن المنيا العظيم شرب من ماء الغرب وفكره ودمج ذلك مع روح الشرق وسحره فكان مختلفًا عن سواه شكلًا وموضوعًا، عرف السجون والمعتقلات وتحدث بلغة المثقف الفذ أمام جلاديه، ومازالت مزحة الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى تطاردنى عندما تحدث لويس عوض عن اختفاء جسم الجريمة (Corpus Delicti) إذ كان يظن أن العلم فى كل مكان وأن العقل يزن جميع الأمور، إنه لويس عوض الذى أشعل المعارك الفكرية والقضايا الضخمة فى حياتنا، فكان له موقف مع اللغة العربية العصرية ورؤية خاصة تجاه عروبة مصر، وأنا أتذكر أنه قال لى ذات يوم ونحن نتناول طعام الغذاء فى النادى الدبلوماسى إن مفكرًا جزائريًا كبيرًا قال له ذات يوم: إن مشكلتكم فى مصر أنكم شعب (بزرميت) أى أن تشكيلته السكانية رغم تجانسها الكامل إلا أنها تعطى درجة عالية من التعددية والتنوع، وقد يكون ذلك صحيحًا وهو أمر انعكس على فكر لويس عوض وانفتاحه الشديد على كل التيارات الثقافية والفكرية، ولا شك أن كتاب مذكراته (أوراق العمر) هو نقلة نوعية فى كتابة المذكرات فى بلادنا خصوصًا الجزء الخاص بسنوات التكوين، فلقد بلغت صراحته حدًا مفزعًا احتج عليه شقيقه الأستاذ الجامعى الراحل وباقى أسرته لأنه فتح الملف العائلى كاملًا دون أى حسابات خاصة، ولا زلنا نتذكر معركة لويس عوض حول جمال الدين الأفغانى وتبنيه لوجهة نظر ترى احتمال أن يكون الأفغانى عميلًا إيرانيًا لصالح الاستخبارات البريطانية، وهذا بالطبع لا ينتقص من أفكار ذلك المجاهد الكبير ويكفى الآثار العظيمة التى تركها تلميذه النجيب ورفيق عروته الوثقى الإمام المجدد محمد عبده، وأتذكر أننى دعوت لويس عوض ذات يوم للحديث فى ندوة مفتوحة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى منتصف ستينيات القرن الماضى - عندما كنت رئيسًا لاتحاد طلابها - وقام أحد الطلاب يوجه إليه سؤالًا مستفزًا حول علاقته بالسلطة فى ذلك الوقت، وكان الرجل قد مر بتجربة الاعتقال لسنوات فإذا به يفاجئ الجميع قائلًا للسائل: إذا كنت تستعدى علىّ الآن الاتحاد الاشتراكى بكل ما له فالأمر لا يمثل لى شيئًا يخيفنى أو شأنًا يزعجنى، وضجت القاعة يومها بالتصفيق فلقد كان إيمان لويس عوض بحرية التفكير والتعبير إيمانًا مطلقًا يتجاوز الحدود المسموح بها فى بعض العهود، وهو الذى التقى بالملكة نازلى وأسرتها فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد رحيل الملك فاروق واعتناقها النصرانية حتى دفنت فى إحدى الكنائس لتعكس مأساة غريبة لتركيبة عائلة فاروق الذى جنت عليه أمه حيًا وانقلبت على دينه ميتًا، ولقد كانت لغة لويس عوض تحليلية ورائعة كما كان اطلاعه الواسع على الأديان والثقافات والحضارات ذخيرة تعطيه مددًا واضحًا فيما يكتب وما يقول، ولقد قال لى فى إحدى جلساتنا ذات يوم: إن عبد الناصر كان يرسل رجاله إلى الكنائس لمتابعة الوعظات وكتابة تقارير عما يسمعون، فقلت له: ولماذا هذه النغمة الطائفية فى حديثك؟!، إن عبد الناصر كان يتسمع ما يقال فى الكنائس والمساجد أيضًا.. إنه لم يفعل ذلك من منظور دينى ولكنها كانت فلسفة نظامه وروح عصره، وما أكثر اللقاءات التى جمعتنى به مع الدبلوماسى الراحل أستاذ جيل فى الخارجية المصرية وأعنى به د. أسامة الباز الذى كان سببًا فى توثيق علاقتى بلويس عوض كاتبًا ومفكرًا وصحفيًا وروائيًا، فقد كان رحمه الله بحق شخصية موسوعية.. إننى أتذكر لويس عوض الآن عندما كانت زيارتى الأخيرة له فى المستشفى قبل وفاته بيومين وكان وقتها هادئًا فى حديثه، متصالحًا مع نفسه، قليل الكلام كثير الابتسام يغلق برحيله فصلًا طويلًا من فصول الثقافة المصرية المعاصرة.