خالد الدخيل
تمثل وفاة الأمير سعود الفيصل علامة فارقة بالنسبة إلى السعودية. برحيل وزير الخارجية السابق تكون المملكة خسرت صوتاً كان يتمتع إقليمياً ودولياً بقبول واسع، واحترام كبير، وكسب ذلك ليس لأنه كان يمثل دولة إقليمية كبيرة فحسب، بل بشخصيته التي تميز بها، إذ عُرف عن سعود الفيصل ثلاثة أمور: تهذيب يتداخل مع ذكاء لماح، وصلابة موقف تعكس قناعة متجذرة، وقاموس يخلو من اللغو حتى في أصعب اللحظات. في عام 2009 تحدث سعود الفيصل من مكتبه في الرياض إلى صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، حينها كان أكمل 35 سنة في وزارة الخارجية. وقال عن هذه السنين للصحيفة الأميركية: «لم نعرف في كل ذلك الوقت لحظة فرح واحدة، كل ما رأيناه حتى الآن لحظات أزمات، ولحظات صراع». ثم أضاف: «كيف يمكن أن ترى لحظة سعادة في أي شيء يحدث حولك، ولديك شعب مثل الشعب الفلسطيني يعيش كما هي حالهم الآن». قال ذلك قبل ما يقرب من السنتين من انفجار الانتفاضات الشعبية في خمس دول عربية، وانزلاقها إلى حروب أهلية، وانهيار دول، واهتزاز عروش وأنظمة.
خلال 40 سنة من العمل الدبلوماسي كان من نصيب سعود الفيصل أن يعمل في أكثر المنعطفات التاريخية دقة وخطورة من تاريخ المنطقة، بدأ عمله في الخارجية بعد أقل من ثلاثة أشهر من انفجار الحرب الأهلية اللبنانية صيف 1975. ثم توالت الأحداث والأزمات بعد ذلك: زيارة السادات القدس عام 1977، اتفاق كامب ديفيد 1979 بين مصر وإسرائيل، الثورة الإيرانية، الحرب العراقية- الإيرانية، الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثم الاجتياح العراقي للكويت عام 1990. مجيء الحدث الأخير في نهاية مسلسل أحداث كبيرة جعل منه الحدث الأكبر الذي مثل، ولا يزال، أكثر المنعطفات خطورة على الجميع، فبعد الاجتياح العراقي استمرت كرة الأزمات في التدحرج لما هو أخطر بكثير مما تصور البعض قبل هذا الحدث. سيسجل التاريخ أن دخول القوات العراقية الكويت، وحرب التحرير أو عاصفة الصحراء التي أعقبت ذلك، كانا المنعطف الذي قاد إلى الغزو الأميركي للعراق 2003، ثم احتلاله لما يقرب من عشر سنوات، فإعادة تأهيل إيران ولاية الفقيه من خلال هذا العراق المحتل. وكان سعود الفيصل من بين الأصوات القليلة التي عبرت مبكراً عما يمكن أن ينطوي عليه هذا المآل بلغة لم تعهدها الدبلوماسية السعودية من قبل. كان ذلك في خريف 2005، وفي حديث إلى «مجلس الشؤون الخارجية» في نيويورك بالولايات المتحدة. حينها قال مخاطباً الحضور: «حاربنا معاً (يقصد عاصفة الصحراء) لإبقاء إيران خارج العراق، بعدما أخرج الأخير من الكويت. والآن نسلم كل العراق لإيران من دون أي مبرر». كان تسليم العراق بدأ في عهد الإدارة الجمهورية للرئيس جورج بوش الابن. سيأتي الرئيس الديموقراطي باراك أوباما بعد ذلك ويستكمل عملية التسليم بسحب القوات الأميركية بالكامل من العراق، وإخلاء الساحة للنفوذ الإيراني. والأكثر من ذلك بدء التفاوض النووي مع إيران، ووضع ما يمكن أن يكون أسس إعادة العلاقة بين واشنطن وطهران.
والحقيقة أن الحال العراقية بما انتهت إليه تمثل فشلاً عراقياً مأسوياً، لكنها في الوقت نفسه تمثل حال فشل عربية أيضاً. وعندما تأخذ مسار الأحداث ومآلاتها لما قبل عام 1975، وكذلك لما بعد هذا التاريخ، تدرك صدق ما قاله وزير الخارجية السعودي للصحافي الأميركي عام 2009. ينقل هذا الصحافي عنه أنه «بعد كل تلك السنوات (أي منذ 1975)، يعتبر أن إرثه تميز بالكثير من الإخفاقات وليس الكثير من النجاحات». وهو يقصد بالإخفاقات هنا ما يتعلق منها بالقضايا العربية الكبيرة، خصوصاً القضية الفلسطينية، كما أشير من قبل. وهذه شجاعة في مواجهة الحقيقة لم يعتد عليها السياسيون العرب، خصوصاً أن مسؤولية الإخفاقات في القضايا العربية لا تقع على عاتق سعود الفيصل تحديداً، ولا على بلد بعينه من دون الآخر. الإخفاقات حال عربية عامة تنظر إلى معالمها في كل مجال تقريباً، وعلى مستويات عدة. وجاءت الانتفاضات الشعبية وكشفت خطورة قابلية الوضع العربي للفشل والإخفاق، وعدم القدرة على الاتفاق على أي شيء تقريباً داخل كل بلد من البلدان التي شهدت هذه الانتفاضات.
من ناحية ثانية، يبدو أن تجربة الفيصل الطويلة والمخيبة للآمال مع الأوضاع العربية، جعلته أكثر قرباً من طبيعة الأنظمة العربية، وعززت ميله نحو التشدد تجاه بعض هذه الأنظمة، إذ يعرف عن سعود الفيصل أنه على رغم نعومة لغته وهدوئه وتهذيبه الذي لا تخطئه عين، كان يعتبر من بين صقور السياسة الخارجية السعودية، وعبر عن هذا الموقف بشكل خاص تجاه إيران والنظام السوري في زمن بشار الأسد. واللافت من هذه الناحية، أن هذه السمة في موقف وزير الخارجية الراحل لم تبرز إلى العلن إلا في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وفي الشهرين الأخيرين قبل استقالته من عهد الملك سلمان. وهذا في الغالب يعود، إلى جانب الظروف المحلية والإقليمية، إلى السمة الشخصية للملك الذي عمل تحت قيادته، وحدود المساحة المتاحة لوزير الخارجية للتعبير عن حقيقة رؤيته في خضم السياسة العربية، والموقع السعودي منها في هذه اللحظة أو تلك.
فمثلاً اتسم موقف سعود الفيصل من النظام السوري في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد الثورة السورية، بالصرامة والوضوح. كان هو أول من قال إن «سورية تحت الاحتلال الإيراني»، وكان يرى أنه لا حل للأزمة السورية مع بقاء هذا الاحتلال. ومثل هذا الموقف يؤشر إلى أن السعودية قطعت خط الرجعة مع النظام السوري، خصوصاً قيادة بشار الأسد. والأرجح أن موقف سعود الفيصل هذا جاء نتيجة خبرة طويلة في التعامل مع النظام السوري، وهي خبرة تمتد من أيام الحرب الأهلية اللبنانية، وقمة الرياض السداسية عام 1976 التي وافقت على دخول القوات السورية إلى لبنان، ثم مؤتمر الطائف 1989 و1990 الذي وضع حداً لتلك الحرب. وكان لسعود الفيصل دور بارز في التعامل مع هذه الأحداث والتطورات. يأتي بعد ذلك المنحى الذي اتخذه تحالف دمشق مع إيران بعد حافظ الأسد، ثم انفجار الثورة، والدور الإيراني في قمع هذه الثورة، هذا هو المسار الذي يشكل خلفية موقف وزير الخارجية السعودي السابق.
في الأخير كان تزامن استقالة سعود الفيصل كوزير للخارجية، ثم رحيله إلى الرفيق الأعلى، مع بداية عهد جديد في السعودية، مصادفة. لكنها مصادفة تعلن نهاية حقبة من الدبلوماسية السعودية، وبداية حقبة أخرى مع عهد آخر أكمل بالكاد النصف الأول من سنته الأولى. ترى ماذا بعد سعود الفيصل؟