بقلم - سليمان جودة
أقرأ مع غيري أن مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي، زار إسرائيل قادماً من الهند، وأنه قضى في تل أبيب ساعات معدودة، وأن الهدف من الزيارة كان إبلاغ المسؤولين هناك أن الرئيس دونالد ترمب وافق على ما كانت الحكومة الإسرائيلية تجلس في انتظاره.
ولأني أكتب قبل الإعلان عن نتيجة السباق إلى البيت الأبيض، فمن الجائز عندما ترى هذه السطور النور، أن تكون نتيجة السباق قد جرى إعلانها، وأن يكون الرئيس ترمب قد استقر في مكتبه البيضاوي، لأربع سنوات جديدة وأخيرة، أو أن يكون المرشح جوزيف بايدن قد كتب الله له أن يجلس إلى هذا المكتب، الذي سيكون عليه عندها أن يودع صاحبه المنتهية ولايته بعد صحبة بينهما دامت أربع سنوات. هذا جائز وذاك وارد، ولا أحد يستطيع أن يتوقع أو يخمن اسم الفائز بينهما.
وربما كان عجز المحللين السياسيين عن التوقع أو التخمين في سباق ظللنا نتابع وقائعه لأسابيع وأشهر، دلالة لا تخطئها العين على أننا أمام عملية انتخابية تتوافر فيها الحدود الدنيا من ملامح العملية الديمقراطية. هذا بالطبع موضوع آخر، ولكنه يدعونا للعودة إلى قراءة الخبر الذي يتحدث عن أن إسبر التقى نظيره الإسرائيلي بيني غانتس، ثم بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، وأنه جاء يبلغهما موافقة إدارة الرئيس ترمب على بيع الطائرة «إف 22» إلى إسرائيل.
علينا أن نعود إلى قراءة الخبر مهما كان اسم الفائز، لأن نتيجة السباق لن تغيّر في مضمونه شيئاً، سواء فاز بايدن أو خسر ترمب، ولأن لنا أن نتساءل بعد قراءته عن مفهوم السلام لدى الدولة العبرية، إذا كانت في الوقت الذي لا تتوقف عن السعي إلى عقد اتفاقات سلام مع أكثر من دولة عربية، لا تجد حرجاً في السعي بالتوازي نحو شراء أحدث الأسلحة المتوفرة لدى الولايات المتحدة.
نتيجة السباق لن تغير من مضمون الخبر شيئاً، لأنه ليس من المتصور أن يرجع ترمب عن القرار إذا فاز وتأكد من فوزه، ولا من المتخيل أن يقرر بايدن إلغاء قرار سلفه إذا كان الفوز من نصيبه، اللهم إلا إذا كانت واشنطن ستغري تل أبيب بالتفكير بمنطق مختلف في مرحلة ما بعد إطلاق أكثر من قطار في طريق علاقتها بدول المنطقة من حولها، وهذا التفكير على كل حال هو ما لا نجد أمارة حتى اللحظة تقول إنه موجود، ولكن الأمل في وجوده يظل قائماً على الدوم.
المعلومات المنشورة عن هذه الطائرة تقول إنها لا تباع لدولة خارج أميركا، وإن بيعها لإسرائيل بالتالي هو حالة استثنائية لا مثيل لها! فلم يحدث من قبل أن حصلت عليها أي دولة، ولن يحدث غالباً في المستقبل، إلا إذا تم إنتاج طائرة أخرى أقوى منها وأحدث!
هذه الطائرة هي الوحيدة القادرة على حمل ما تسمى القنبلة الذكية، وهذه القنبلة الذكية توصف بأنها أقوى قنبلة غير نووية قادرة على تدمير المواقع على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض! وعندما يقال إن القنبلة من هذا النوع تزن 14 طناً، فإننا في الحقيقة نجد أنفسنا أمام طائرة تحمل جبلاً متفجراً، أكثر منها طائرة تحمل قنبلة بالمعنى المفهوم لكلمة قنبلة في الوعي العام للبشر!
شيء لا يمكن تصوره، لا من حيث قدرات الطائرة، ولا من حيث الطاقة التفجيرية للقنبلة المحمولة على ظهرها، ولا من حيث حقيقة النيات التي تدفع إسرائيل إلى الحصول عليهما معاً، ولا حتى من حيث مبررات إقدام واشنطن على كسر قاعدة كانت تقول إن هذه طائرة للولايات المتحدة حصرياً، وإن هذه قنبلة للجيش الأميركي كذلك على سبيل الحصر أيضاً من دون سواه من الجيوش.
كان من الوارد أن تفكر إسرائيل بهذه الطريقة في الفترة التالية لحرب 1948، عندما خاض العرب حربهم الأولى معها، وعندما بدت تلك الحرب مجرد جولة من بين جولات، وعندما عرضت الأمم المتحدة قرار التقسيم على طرفي الصراع فلم يقبل به الفلسطينيون!
فليس لرفض القرار في ذلك الوقت من معنى سوى وجود رغبة واضحة عند الطرف الفلسطيني في الحصول على شيء أكبر مما عرضه القرار، وسوى أن لدى هذا الطرف طريقته في استعادة أرضه، وسوى أن القوة وقتها ستكون أداته في الوصول إلى ما لم يستطع أن يصل إليه بقرار التقسيم.
وكان من الجائز أن تطلب إسرائيل الطائرة والقنبلة معاً، في مرحلة ما بعد الخامس من يونيو (حزيران) 1967، لأن الدول التي وقعت أرضها تحت الاحتلال في ذلك التاريخ لم تكن لتسكت حتى تعود لها الأرض، ولم تكن لتهدأ حتى تستعيد سيادتها على حدودها.
ولكننا اليوم في مرحلة مختلفة عادت فيها سيناء إلى وطنها الأم، وقامت معاهدة سلام بين القاهرة وتل أبيب، ثم معاهدة بينها وبين عمّان.
مرحلة ذهب فيها الفلسطينيون إلى مفاوضات سلام مع الإسرائيليين في أوسلو، وكان معنى ذهابهم إليها أنهم يقدمون خيار السلام على خيار الحرب، وأن جلوسهم على الطاولة وانخراطهم في التفاوض على مرأى من العالم إنما هو أقوى دليل.
ورغم ما لحق مشروع أوسلو من نكسات، ورغم رجوع إسرائيل عن الوعود والعهود، فالمشهد العام حولنا يقول إن الفلسطينيين مستعدون رغم كل ما يجري للجلوس من جديد على طاولة للتفاوض على قضايا الوضع النهائي، فهذا ما صدر قبل أيام عن الرئيس محمود عباس، ولكنه استعداد مرتبط طبعاً بالجدية على الطرف الآخر، وبالجدية في الراعي الأميركي بالدرجة نفسها!
والمشهد العام أيضاً يقول إن إقدام ثلاث دول عربية على إطلاق علاقاتها مع إسرائيل، إشارة كافية إلى أن العرب في العموم ليسوا راغبين في الذهاب إلى الحرب مع الإسرائيليين، وأنهم راغبون في العيش معهم في هدوء يحققه السلام.
صحيح أن السلام يظل في حاجة إلى قوة تحميه، ولكن ما قيل على لسان مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، عندما زار المنطقة في أغسطس (آب)، عن ضمان بلاده التفوق العسكري الإسرائيلي النوعي على جيرانها، وما نعرفه عن طاقة الطائرة «إف 22» وقنبلتها الذكية، يقول إن هذا كله ليس لحماية السلام بقدر ما هو استعداد للحرب، حتى ولو كانت إسرائيل تتحدث عن السلام وتقول إنها تريده.
حرب مع مَنْ إذن، إذا كانت عواصم العرب التي أطلقت قطار علاقاتها ومعها العواصم التي لم تطلقه، لم يخرج عنها ما يفيد بأنها تخطط لحرب أو حتى تفكر فيها؟!
هل تخطط تل أبيب لحرب مع طهران؟! هذه بدورها مسألة لا محل لها من الإعراب، لأن الحرب إذا قامت بينهما فسوف تكون لأن إيران فكّرت في تحرير القدس، ثم قررت السعي في هذا الطريق إلى غايته. ولم يحدث من قبل أن فكرت الحكومة الإيرانية في ذلك، ولن يحدث من جانبها في المستقبل، لأن حكومة المرشد في العاصمة الإيرانية هي أول من يستخدم القضية الفلسطينية وهي آخر من يخدمها!
السلام الذي تتحدث عنه إسرائيل في ظل أحاديث التفوق العسكري والطائرة والقنبلة، سوف يظل سلاماً مع حكومات، ولن ينتقل إلى مستوى الشعوب، إلا إذا استبدل الذين يحكمون في تل أبيب عقيدة السلام بعقيدة الحرب، وإلا إذا آمنت إسرائيل بأن السلام لا يتحقق بالكلام، وأنه قناعات لدى صانع القرار فيها، أكثر منه بنوداً تصاغ في اتفاقيات!