بقلم : سليمان جودة
لا بد أن الذين قرأوا الكثير مما قيل فى صف الدكتور كمال الجنزورى قد سألوا أنفسهم هذا السؤال: كيف لم نسمع شيئًا من هذا وقت أن كان الرجل حيًا يسعى بيننا؟!.. ولا بد أيضًا أنه سؤال وجيه، وأن له ما يبرره، فلقد بدا الكثير الذى قيل وكأنه طوق نجاة ألقوه لغريق بلغ الشاطئ!.
وإذا كنا قد اكتشفنا الجنزورى مرتين من قبل: مرة عندما تولى الحكومة قبل 25 يناير، ومرة بعدها.. فالثالثة كانت بعد أن غادر الدنيا راضيًا عما قدم لبلاده، ولكنه اكتشاف ثالث متأخر كالعادة، وتكريم من النوع الذى يتلقاه صاحبه فى الوقت الضائع!.
كنت قد كلمته فى يناير أهنئه بعيد ميلاده عندما عرفت من كتاب مذكرات الدكتور مصطفى الفقى أنه يرحمه الله من مواليد أول شهور السنة.. كان صوته واهنًا يأتى من الأعماق، ولكنه سألنى وهو يغالب ضعف صحته: ماذا ذكر عنى الدكتور مصطفى؟!.. قلت: قال كذا وكذا.. رد فى هدوء: ما قاله صحيح!.
وقد تحققت له درجة لافتة من المصداقية والشعبية لدى الناس، وكان ذلك واضحًا حين تولى الحكومة بعد 25 يناير، فلم يتظاهر الشارع ضده كما كان الحال مع كل صاحب مسؤولية فى تلك الأيام.. بل إن مجيئه إلى المنصب نفسه للمرة الثانية كان محل ارتياح، وكان سبب الارتياح أن المصريين جربوه من قبل، فوجدوا فيه صدقًا فى الأداء، كما وجدوا معه انحيازًا إلى آحاد الناس!.
ومن حُسن الحظ أن هذا الانحياز مرصود فى تقرير لمكتب البنك الدولى فى القاهرة، صدر فى عام 2000، وقال إن السنوات الأربع التى قضاها الرجل على رأس الحكومة من 1996 إلى 1999 شهدت تراجعًا فى معدل الفقر بنسبة تصل إلى 4%!.
وكان عنده سبب مضاف إلى الشعبية والمصداقية، هو اعتداده بنفسه وحرصه على حفظ كرامة المنصب الذى كان يشغله، وفى مذكراته الصادرة عن دار الشروق، تحت عنوان: «طريقى.. من القرية إلى رئاسة الحكومة»، ما يشير إلى ذلك فى أكثر من موقف!.
روى أنه تلقى اتصالًا ذات مساء من الدكتور زكريا عزمى، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، أيام مبارك، وفهم من الاتصال أنه مدعو إلى حضور جولة للرئيس فى محكمة شمال القاهرة فى العباسية، وأن الرئيس سيعقد لقاء بعد الجولة مع عدد من القضاة، وأنه كرئيس للحكومة سيجلس فى منتصف الصف الأول أمام الرئيس مباشرةً.. يكمل الرواية ويقول إنه راجع نفسه بعد المكالمة، فطلب الدكتور زكريا وأفهمه أن وزير العدل إذا كان سيجلس مع الرئيس على المنصة، فمكان رئيس الوزراء الطبيعى على يمين الرئيس، وإلا، فإنه سينصرف بعد انتهاء الجولة وقبل دخول قاعة اللقاء مع القضاة!.. بعدها بدقائق عاد رئيس الديوان يبلغه بأنه سيجلس إلى يمين الرئيس!.. لهذا وسواه أحبه الناس.. فلقد عاش يضع نفسه حيث يحفظ كرامته وكرامة منصبه!