سمير عطا الله
عاش الدكتور وليم بولك 91 عاماً، معظمها في رفقة العروبة والإسلام. وتلقى العلم في جامعات كثيرة، بينها جامعة بغداد، ودرّس العلوم في جامعات كبرى، أهمها هارفارد. وتنقل في أعلى المناصب الاستشارية بادئاً مع جون كيندي، لكنه ما لبث أن انصرف كلياً إلى التأليف، حيث وضع عدة كتب مرجعيّة قيّمة، آخرها «الجهاد والإسلام». غير أن الأوساط الأكاديمية ظلت تتذكره على أنه الرجل الذي قام بأكثر الأعمال مشقّة في عالم الاستعراب، وهو ترجمة معلقة لبيد.
لم يكتفِ بولك، الشاب، بالترجمة من الكتب، بل طلب من الملك فيصل بن عبد العزيز أن يضع في تصرفه مساعدين يرافقونه في الرحلة في خطى لبيد. فأمر له الملك الراحل بسيارات ومؤن، لكنه عاد إليه يقول: «أنا، يا صاحب الجلالة، أريد جمالاً وأدلّة كما لو كنا في أيام لبيد».
وقبل سنوات عاد فكرر الرحلة بدعوة من الأمير سلطان بن سلمان. في فبراير (شباط) الماضي جاء الأمير سلطان بنفسه إلى منزل بولك في مدينة فانس، بجنوب فرنسا، حيث اتفق معه على أن تُضم المكتبة الكبيرة التي يملكها، إلى دارة الملك عبد العزيز، لما فيها من مراجع نادرة عن مرحلة شديدة الأهمية من التاريخ العربي.
وكنا نلتقي الدكتور بولك كل صيف، ونشعر في مكتبته كأننا في متحف من متاحف التاريخ. وكان هو أيضاً موسوعة تاريخية وذاكرة سياسية وثقافية غنية. ومع أنه ترك الحياة في الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، فقد كان يأتي إلى زيارته في جبال «فانس» كبار الشخصيات السياسية والفكرية.
وأذكر أننا أمضينا سهرة رأس السنة في منزله، وكنا أربعة فقط: السيناتور جورج ماكغفرن، وصديقه وجاره رجا صيداوي، وأنا.
ذكَّرت السيناتور ماكغفرن بيوم خاض فيه معركة الرئاسة عن الحزب الديمقراطي، وكيف كان الكثيرون من عرب أميركا يأملون في أن وصوله إلى البيت الأبيض سوف يؤثر في معادلة السياسة الخارجية والوصول إلى واشنطن أكثر حياداً وموضوعية.
ها أنا الآن في لقاء شخصي مع سياسي لم أكن أحلم بلقاء صحافي معه. وكان ماكغفرن قد شارك في وضع مؤلف واحد مع الدكتور بولك، وانتبهت إلى أن الرجل الذي تعدى الثمانين قد عبر المحيط الأطلسي ليمضي بضعة أيام مع صديق قديم. وكانت مفاجأة آخر السهرة وفيما ننصرف، استوقفني السيناتور قائلاً: «هل لديك يا صديقي رقم هاتفي أتصل بك عليه؟».
غريب أمر الأميركيين والتواضع. على الأقل الذين عرفت منهم. وكان وليم بولك نموذجاً. فإذا لم تراجع غوغل لن تعرف أن أحد أقربائه كان رئيساً للدولة. فقط بعد وفاته وقراءة التأبين الذي نشرته عنه «النيويورك تايمز» عرفت أن زوجته، إليزابيث، بارونة نمساوية. البارونة كانت تقدم لنا القهوة في الحديقة.