إياد أبو شقرا
أرسل لي صديق شريط فيديو سُجّل، قبل بضع سنوات، لبيل غيتس، مؤسس عملاق التكنولوجيا الأميركي «مايكروسوفت» ورئيسها حتى يوم أمس. قال غيتس في الشريط إن الحرب العالمية الثالثة التي تهدد العالم في المستقبل القريب ليست حرباً عسكرية نووية بل غزو فيروسي للعالم يربك البشرية ويشلها.
غيتس، باعتقادي، ليس رجل سياسة وما كانت في ذهنه نظرية مؤامرة، بل هو إنسان رؤيوي عايش تطور التكنولوجيا، وخالط كتل الضغط السياسي وتجار النفوذ، وأدرك أولوياتهم. ومن خبرته، لاحظ أن عوامل الجشع والغطرسة وانعدام التعاطف الاجتماعي تدفع أهل السياسة، وبالأخص في الدول الكبرى، لتبني أولويات خاطئة في استراتيجياتهم السياسية. وحقاً، لا سيما، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي - وما رافقه من انتكاسة ليس فقط لقوة اليسار في أوروبا - تكوّنت قناعات مبسّطة بالأسود والأبيض ملخصها أن الإيمان بكل ما له علاقة بالصالح العام وتقبّل التدخل الحكومي لتأمين شبكات الأمان الاجتماعية... انتهى وأفلس وهزم بهزيمة السوفيات
وبالفعل، في تلك الحقبة التاريخية من عمر أوروبا والعالم التقيت بأكاديمي إيطالي شاب في حفل نظّمه أستاذ زوجتي لطلبته في بيته اللندني. وأثناء تجاذبنا أطراف الحديث بدءاً من كرة القدم، طبعاً، اقتربنا من الأوضاع السياسية، فصارحني بألم بأنه يساري لكنه يعيش راهناً خواءً فكرياً وحسرة على رهاناته الخاطئة.
عندها سألته: «لماذا تقول خاطئة؟»، فأجابني: «ألا تعتقد أن انهيار الاتحاد السوفياتي دليل كافٍ على انهيار الفكر الاشتراكي؟»... فدخلت معه في جدل، وقلت له إن «موسكو لا تحتكر الاشتراكية ولا واشنطن تحتكر الديمقراطية ولا الفاتيكان يحتكر الإيمان».
وتابعت، فقلت: «ديمقراطيات كالسويد وسويسرا وفنلندا بلدان اشتراكية ناجحة، بينما ديكتاتوريات عديدة في دول العالم الثالث (فاشلة). ثم إنه لا يوجد فكر سياسي جامد، وعندكم في إيطاليا، بالذات، كان الزعيم الشيوعي إنريكو بيرلينغوير أول من أدان النموذج الروسي السوفياتي، ودعا إلى (المساومة التاريخية) لأنه أدرك أن النموذج السوفياتي قد يصدق في روسيا، لكنه لا يصح بالضرورة في غيرها. والشيء نفسه ينطبق على الرأسمالية في دول فقيرة لا شبكة أمان فيها». ومن ثم، قلت: «عليك أن تتذكر أن حتى أعدل القضايا يمكن أن تخسر إذا كان المحامي فاسداً أو غبياً».
ردّة فعل هذا الأكاديمي الشاب نمت عن ارتياح غريب، عبر عنه بسؤال بريء: «إذن أنت لا تعتقد أن كل شيء انتهى؟»... فأجبته: «لا، إطلاقاً، ما دام أن الإنسان يعيش ويحتاج ويطمع ويفكّر سيظل الصراع قائماً بين الأفكار والأولويات، بأشكال مختلفة وحجج متنوّعة ومنطلقات مصلحية متعدّدة».
مرّت في بالي تلك الجلسة عام 1990، لدى متابعتي اختلاف ردّات الفعل بين دول العالم، من التشدد في إغلاق البلاد - أو إعلان حالة الطوارئ - تحت وطأة تفشّي وباء «كوفيد - 19» (كورونا) كحال إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة، والتأجيل المتعمّد كما هو حاصل في بريطانيا.
ولقد كان لافتاً نداء رئيس وزراء إيطاليا السابق ماتيو رينزي إلى الألمان والبريطانيين والفرنسيين تحديداً، وتحذيره بأن عليهم استيعاب الدرس الإيطالي وتحاشي تكرار استخفاف الإيطاليين بالوباء. وما قاله رينزي إن المواجهة مع فيروس مجهول لا لقاح ولا علاج له تختلف عن مواجهة إرهاب مرئي من الواجب خذلانه بالإبقاء على نمط الحياة العادية. حتى في الولايات المتحدة، مع تزايد الإصابات والوفيات، اضطر الرئيس دونالد ترمب لإعلان حالة الطوارئ بعد فترة تذبذب وارتباك.
فقط في بريطانيا - حتى تاريخ كتابة هذه السطور - ظلت الحكومة المحافظة على رأيها في رفض اتخاذ تدابير إغلاق وعزل صارمة. وفي هذا السياق أطلق خبراء الحكومة ومشيروها الصحيون تبريرات استغربها كثيرون؛ منها أن فرض العزل المنزلي في وقت مبكر سيصيب الناس بالملل فيستهينون به... ومنها أن من الأفضل «تأجيل» أوج الارتفاع الحتمي في عدد الإصابات من أجل تعزيز فرص إكساب القطاع الأوسع من الشعب مناعة ضد الفيروس. وأمس خرجت صحيفة «الغارديان» الرصينة بتقرير أورد على لسان مصدر مطلع ومقرب من موقع اتخاذ القرار أن قرار إغلاق المدارس وحده سيؤدي إلى تراجع الناتج المحلي بثلاثة مليارات جنيه. وهنا، تصاعدت التهم بأن الهمّ الأول للمحافظين هو المال وقطاع الأعمال، بينما هم مستعدون للتضحية بحياة عشرات الألوف من المواطنين جلّهم من كبار السن وأصحاب المشاكل الصحية المزمنة.
السوابق تعزّز صدقية هذه التهم، وبخاصة أن النجاعة الاقتصادية كانت لها الأولوية على الدوام في تفكير اليمين البريطاني، بل معظم اليمين في الديمقراطيات الغربية... بدرجات متفاوتة من التشدد. ومن ثم، لا يمكن الفصل بين السياسة الممنهجة الهادفة لتقزيم القطاع العام - ومنها «خدمة الصحة الوطنية» - مثل الخصخصة وخفض الضرائب والإحجام عن الاستثمار في البنى التحتية وصيانتها... وبين النقص الفظيع في عدد أقسام العناية المركّزة في المستشفيات البريطانية. ووفق الخبراء، فإن بريطانيا تعاني من نقص كبير في عدد الأطباء والممرضين وأجهزة الإنعاش المطلوبة في حالات بخطورة وباء كورونا الحالي.
وفي إحصائية مقلقة للبريطانيين تتعلق بعدد أسرّة غرف العناية المركّزة يتبيّن أن نسب الأسرّة لكل 100 ألف مواطن في بعض كبريات دول العالم المتقدمة، كما يلي:
الولايات المتحدة 34.7، ألمانيا 29.2، إيطاليا 12.5، فرنسا 11.6، كوريا الجنوبية 10.6، إسبانيا 9.7، اليابان 7.3، بريطانيا 6.6، الصين 3.6، الهند 2.3.
هنا، تجب الإشارة أولاً إلى أن بريطانيا تتخلّف عن كل من إيطاليا وإسبانيا اللتين تدفعان اليوم ثمناً إنسانياً باهظاً للمحنة مع كورونا. وثانياً، إلى أن الصين ما تمكّنت من احتواء استشراء الوباء إلا بخطوات راديكالية قامت على الحجْر والعزل الصارمين وعلى التسريع ببناء مستشفيات وتجهيزها لتملأ النقص بسرعة قياسية.
في هذه الأثناء، تبدو بريطانيا، التي كانت رائدة شبكات الأمان الصحية عالمياً، مفتقرة للتجهيزات والكفاءات البشرية المطلوبة نتيجة دوغماتية سياسية - اقتصادية نسيت أو تناست أن لا خيار عن الاستثمار في الإنسان. ولا بديل عن التأهيل مهما كلف الأمر.
فالناس ليسوا أرقاماً ولا هم فئران تجارب مخبرية.