د. آمال موسى
أقترح عليكم بكل حذر ونسبية طبعاً محاولة التفكير في وباء الكورونا من خارج مقاربة الموت والتكلفة الاقتصاديّة الباهظة أو المقاربة النفسية من ناحية ما تثيره من مخاوف وهلع يصلان إلى حد الفوبيا.
ما رأيكم أن نفكر في «كورونا» كظاهرة طبيعية (بمعنى الطبيعة) من منظور التفكير السوسيولوجي تحديداً وذلك باعتبار أن السوسيولوجيا هي موروث الحداثة كما عرّفها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر.
لا شك في أن المقام التواصلي العام لا يسمح بالحفر عميقاً ولكن بالإمكان في مساحتنا هذه أن نطلق فكرة مقاربة «كورونا» سوسيولوجياً وبشكل أكثر دقة محاولة رصد رسائل «كورونا» للحداثة ومنجزها الاجتماعي.
طبعاً المجتمع ليس ظاهرة حداثية وليس منجزاً من منجزات الحداثة ولكن المجتمع الحديث الذي يمثل نتاج ما عرفه المجتمع التقليدي المؤسساتي الكلياني من حداثة في شقيها المادي والفكريّ مع الثورتين الصناعية والفرنسية قد تزعزعت دعائمه ولم يعد ذاك المجتمع الذي تهيمن فيه المؤسسات على حساب الفرد. وهو ما يعني أن منجزات الحداثة المادية والمعنوية أعادت صياغة علاقة المؤسسات الاجتماعية بالفرد. بل إنّه مع الحداثة طوينا مفهوم الفرد بوصفه عوناً اجتماعياً وبدأنا زمناً سوسيولوجياً جديداً شق فيه الفرد طريقه باعتباره فاعلاً اجتماعياً.
حملت هذه التغييرات الاجتماعية في بداياتها عناوين فرح وانتصار للإنسان وردت له الاعتبار أمام حتمية المؤسسات الاجتماعية وهيمنتها على مواقفه وأفكاره وسلوكه. ولم يعد علم الاجتماع فقط علم المؤسسات كما عرفه إميل دوركايم وإنّما أصبح أيضاً منشغلاً بالمعاني الذاتية التي يمنحها الأفراد لسلوكهم. بمعنى آخر تدرجنا بفكرة المجتمع من الوضعية إلى التفهمية التي تحاول فهم سلوك الفرد وتفسيره سببياً من جهة كونه عقلانياً وموجهاً بأهداف تحكمه.
فرضيتي القابلة لكثير من النقاش هي أن «كورونا» كفيروس يشترط لمحاصرته العزل والحجر الصحي وبما يعنيه تكاثره في التجمعات والحشود من انتشار له وحصد للأرواح قد ظهرت - أي «كورونا» - لتقول إن الاجتماع الإنساني قد فشل عندما تحول إلى قرية صغيرة بفضل منجزات الحداثة في تحقيق القرب الحقيقي وتمكين الإنسانية من السعادة وتغليب الخير على الشر. ذلك أن منجز الحداثة كان وراء انتشار المجال الحضري وتكاثر المدن ووسائل النقل التي قربت المسافات وأعادت ضبط الزمن والجغرافيا.
كل ما هو مشترك من وسائل نقل وفضاءات عامة مثل المقاهي والمطاعم والعروض الثقافية والمقابلات الرياضية... كل هذا أصبح مصدر خطر وإصابة بفيروس «كورونا». ومن ثم كأن «كورونا» يريد إلغاء وظيفة بعض منجزات الحداثة ويترك فقط ما يتماشى وفكرة العزلة والانعزال القسري من خلال الحجر الصحي وإجراء حظر الجولان. وهذا بدوره يقودنا إلى هدم فكرة حرية الفرد التي قام عليها جوهر الحداثة. ممارسة الفرد لحريته في ظل فيروس «كورونا» تعني تعرض حياته للخطر. وعند هذا التفصيل بالذات تصاغ بنود التعاقد الاجتماعي بنفس القاعدة التي وضعها جون جاك روسو أي التنازل عن الحرية الطبيعية المطلقة مقابل الأمن والاندماج وتحقيق التوازن ولكن في هذه المرّة لضمان الحياة وعدم الموت.
وهكذا يكون مجتمع الحداثة قد عاد إلى ما قبل الحداثة حيث كانت الطبيعة قاهرة للإنسان وهذا الأخير يطارده خوفه من الطبيعة الذي قاده إلى ابتكار أشكال أولية للاعتقاد يستمد منها القوة قبل ظهور الأديان التوحيدية.
مجتمعات الحداثة بطابعها المركب التعقيدي قطعت الصلة اليوم مع الدين اجتماعياً وظلت مجتمعات أخرى لم تنصهر بالكامل في منظومة الحداثة تتدثر بالدين الذي يمثل طريقتها الرمزية في الوجود الثقافي الكوني الرّاهن. غير أن العلاقة بالدين في مظاهرها المختلفة ظلت بين النفي والسطحي والتوظيف فكان حال غالبية الناس بين الاغتراب عن الدين وبين الاغتراب عنه. وفي مقابل ارتباك علاقة مجتمعات اليوم بمفهوم الدين لم تتوقف العقلنة عن التنامي والتجذر في إنسان المجتمع الحديث ومعها تزايدت هيمنة المادي وتوتره مع الرمزي والتشابك دون حسم قيمي واضح.
وهنا أيضاً كأن بفيروس «كورونا» يذكر الإنسان بضعفه وأن كل نجاحاته العلمية وصعوده للقمر والاكتشافات العلميّة الباهرة ومسار عقلنته للعالم مشكوك في وجاهتها وأن العقل البشري تغيب عنه أشياء وتقلب له أحواله فيروسات قبل أن يجد اللقاح لها تجعله يدرك محدوديته أولاً وأن طحالب غير معلنة يمكن أن تظهر وتتحكم في الفرد والمجتمع.
كذلك فإن هذا الفيروس المخيف في هذه اللحظة من تاريخ المجتمع الحداثي تكشف عن امتحان عسير يواجهه الإنساني حيث إن لسان حال «كورونا» يقول: حروب الإنسان ضد الإنسان والتشريد والتوترات والاستعمار في مظاهره المقنعة الجديدة ليست أكثر بطشاً مني. بل إن التسابق نحو التسلح واستخدام مواد مدمرة للأرض والإنسانية وناشرة للأمراض المزمنة قد أربك الطبيعة فأربكت بدورها من أربكها.