د. آمال موسى
قد لا يحتاج التفكير في تأثير فيروس «كورونا» على عجلة الاقتصاد إلى انتباه كبير أو اجتهاد خاص للوصول إلى تحديد مظاهر التأثير والتداعيات الرّاهنة والمستقبلية. فمن الطبيعي أن يشغل حال الاقتصاد المعطل بسبب الحجْر الصحي المفروض على مختلف شعوب العالم، اهتمام الجميع، لأن الاقتصاد هو معاش النّاس ولقمتهم وشرابهم ومصدر الرّزق.
كل هذا ظاهر للعيان وللجيوب أيضاً. ولكن السؤال: هل فيروس «كورونا» يؤثر على الاقتصاد فقط؟ ثم إن الاقتصاد العالمي عاش أزمات مالية عدّة، وفي التاريخ المعاصر فقط نذكر أزمة 1929 التي توصف بالكساد العالمي الكبير، وتلتها أزمة 2008 التي شهدت انهياراً مالياً مفجعاً، وهي من الأسباب التي كانت وراء ظهور الثورات العربية بسبب ما زادته تداعياتها في نسب الفقر وبطالة الشباب فأذكت الاحتقان والاحتجاج في بعض الشعوب. والاقتصاد كما نعلم بطبيعته معرض للهشاشة مهما كانت قوته ودائماً يرعبنا خبراء الاقتصاد بتداعيات يوم واحد من إضراب عام تقوم به القوى العاملة في أي اقتصاد. ورأينا في العقدين الأخيرين ما فعلته العمليات الإرهابية الإجراميّة باقتصادات بلدان عدة وكيف أطاحت قطاع السياحة بالضربة القاضية وتسببت في تعميق جبن رؤوس الأموال الجبانة بحكم طبيعتها، الأمر الذي أصاب الاستثمار أهم ما يحرك عجلة الاقتصاد ويجعلها تدور بالخمول والجمود.
ولكن هناك أيضاً حقلاً آخر مارس فيه «كورونا» كفاءته العالية في القهر وهو حقل الثقافة بما تعنيه من عادات وتقاليد ودين. أي الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي تحديداً ولا نقصد الثقافة العامة لأن الأنشطة الثقافية يشملها الحجْر وهو مفهوم وضروري.
الصادم حقيقة هو تمكن «كورونا» من قهر عاداتنا وتقاليدنا وكيفية ممارستنا للشعائر الدينية. فالأزمات المالية وحتى الحروب أثرت على الاقتصادات والسياسات وأطاحت نظما سياسية وأتت بغيرها... ولكن ظلت العادات والتقاليد الخاصة بظاهرة الزواج وطقوس الموت وصلاة الجمعة وصلاة التراويح في رمضان وحج المسلمين وحج اليهود إلى الغريبة بجزيرة جربة التونسية وأجواء واحتفالات عيد الفصح... ظلت صامدة قوية ولم تحفل بكل التغيرات والهزات والزلازل الاجتماعية التاريخية إلا قليلاً.
لذلك يردد علماء اجتماع الثقافة دائما أفكاراً اتخذت طابعاً مقدساً؛ منها أن التغيير الثقافي صعب وبطيء ويحتاج إلى أجيال متعاقبة، وأن كثيراً من الظواهر الاجتماعية الثقافية مثل الزواج والعادات المرتبطة بالموت من دفن وزيارات وحج استطاعت أن تضمن الديمومة والبقاء والصلابة في الاستمرارية والانتقال من جيل إلى آخر لأنها هي بذاتها مسنودة اقتصادياً. بمعنى أن طقوس الزواج لها سوق تلبي حاجاتها وجيش من العاملين في تلبية حاجيات المقبلين على الزواج ومستلزمات مراسم الأفراح، وكذلك الموت من عاملين في مجال بيع ما يلزم غسل الموتى والأكفان وأيضاً بناء القبر من دون الحديث عن عادات أخرى حسب المجتمعات والجهات داخل البلد الواحد بخصوص عادات إكرام الميت والوافدين على عائلته لتقديم التعازي للترحم عليه وما يستوجبه ذلك من إكرامهم أيضا.
كل هذه العادات والتقاليد نجح فيروس «كورنا» في تجميدها حالياً. وكل التعازي تقدم عن طريق تكنولوجيا الاتصال الحديثة ولم يعد يصلى على الميت في الجامع ولا أثر في الوقت الراهن للجنائز. وهذا أمر غير قليل سوسيولوجياً بالمرّة. فهو ليس فقط تغيراً نوعياً في السلوك الثقافي بل هو انقلاب صريح لم يستطع بلوغه غير هذا الكائن المجهري المرعب. أقول «انقلاب» لأن المسلمين مثلاً أصحاب ثقافة «إكرام الميت دفنه»... رأينا خلال هذه الأزمة في مصر وفي تونس أشخاصاً يحتجون على دفن متوفى مصاب بـ«الكورونا» في الجهة التي يقطنون فيها، وفي هذين البلدين تم الدفن بالقوة الأمنية وتحت الرفض والاحتجاج. طبعاً لا نقيّم في هذا السياق ردود الفعل هذه بالمعنى الإنساني أو الأخلاقي وإنما ما يعنينا في هذا المقال الانقلاب السوسيولوجي والثقافي بعد أن خلنا أنه لا شيء يُجمد هذه الطقوس. وإذ نركز على الموت والدفن لأن الزواج ومراسمه قابلة للتأجيل وتجميدها والاقتصار على عقد القران، هناك من شرع فيه بسبب ضغط الظروف الاقتصادية. كما أن الحج في النهاية يظل فريضة لمن استطاع إليه سبيلاً. أما طقوس الموت وأداء صلاة الجمعة وغلق الجوامع في شهر رمضان فهذا لم يحصل إلا مع السيّد فيروس «كورونا». كما تم إلغاء موسم حج يهود العالم إلى الغريبة بجزيرة جربة في تونس، وغابت الأجواء الاحتفالية لعيد الفصح لدى المسيحيين... وكي نفهم ما سميته الانقلاب الثقافي مستبعدة توصيف التغيير الثقافي، نطرق باب إميل دوركايم سوسيولوجي الظاهرة الاجتماعية وأوّل من تحدث عمّا تتميز به من قهر اجتماعي وكيف أنّها موجودة خارج الفرد ومزودة بقوة القهر التي مكنتها من فرض نفسها.
ونستحضر تعريف دوركايم للظاهرة الاجتماعية التي يقول عنها إنّها ضرب من السلوك يعم في المجتمع ويمارس على الفرد قهراً، إذ القهر خاصية تتميز بها الظواهر الاجتماعية وكل محاولة للخروج عن القواعد هي مقاومة لقهر الظواهر الاجتماعية. وإذا نجح فرد في الخروج عن القواعد فإن ذلك يتم بشرط الصراع معها.
وها نحن من دون مقاومة ومن دون صراع نمارس انقلاباً ثقافياً يتمظهر في امتثالنا لتجميد ممارسات ثقافية متجذرة في الثقافة والحضارة والفعل الاجتماعي. بل إن البعض طالب بحرق جثث موتى «كورونا». وهو ما يُظهر لنا بشكل غير مسبوق كيف تخلت بعض الظواهر الاجتماعية الثقافية عن قهرها للمجتمع ولم تعد قاهرة على الأقل إلى أن يتم ابتكار لقاح ضد فيروس «كورونا»، بل إنّها توقفت حالياً أيضاً عن أن تكون كما يسميها دوركايم ظواهر سليمة تتميز بالعموم وذات وظيفة ونفع للنّوع البشري، وهو ما كان يضمن لها الاستمرارية والثبات لكونها تزود الأفراد بقوة ما.
بيت القصيد إذا جاز لنا التعبير: إنه السقوط غير المتوقع لممارسات اجتماعية ثقافية عريقة ومدعومة بسلطة العادات والتقاليد القاهرة وقوة الدين وتعرضها إلى نوع من التجميد من دون أن يشهد ذلك مقاومة من المجتمعات. وإن كان في غياب المقاومة والصراع ما يعزز فرضية تنامي العقلنة لدى المجتمعات الراهنة فإن النقطة التي تعنينا هو الامتثالية والمزايدة عليها في الانقلاب على عاداتنا وتقاليدنا، ولم تكن هذه الامتثالية والسهولة والمرونة المتناهية من طبيعة هذه الظواهر ولا من تاريخ السلوك الثقافي الإنساني.
من جهة ثانية، نتساءل: كيف ستستعيد هذه الظواهر عندما نتجاوز أزمة «كورونا» قهريتها وقوتها ونفوذها الاجتماعي؟ لم يحصل هذا من قبل ولم يلاحظ بعد. فلننتظر ونرَ كيف يلتئم جرح الثّقافة وكيف ستمسح العادات والتقاليد ماء وجهها الذي تصبب وما يزال عندما نعود للتواصل عن القرب وللحياة العاديّة.
سيبدو لي أن شرخاً ما قد حصل. قوة الثقافي تصدّعت.