بقلم - خالد منتصر
كل منا داخله نورس مسجون داخل سجن عاداته وتقاليده وأفكاره المتوارثة ويقينياته وحدود جسده وقوانين سربه وشكه فى قدراته وطاقاته، إذا حرّرت هذا النورس تكون قد وصلت إلى سحر الكمال.. «أصعب شىء أن تقنع طائراً بأنه حر»، هذا هو مفتاح رواية «النورس جوناثان ليفنجستون»، تلك الرواية البديعة صغيرة الحجم (١٠٠ صفحة) عميقة المعنى، والتى تحكى عن النورس جوناثان، الذى لم يقتنع بأن أجنحته هى لمجرد الهبوط بجانب قوارب الصيد، ليقتات الفتات، تساءل هل هذه حدود حياته؟، هل هذا هو معناها؟
ظل يدرّب نفسه على الطيران بسرعات عالية وحركات بهلوانية، لم يمنحه ذلك الطيران دسامة الوجبة أو زعامة السرب، ولكن منحه متعة التحليق وحرية التفرُّد ونعمة الوصول إلى الكمال، ورغم طرده من السرب فإنه أصبح جوناثان وليس مجرد نورس فى سرب، سافر بعيداً وعلّم نوارس أخرى متعة التحليق والتجاوز والتحرّر، ولكنهم فى النهاية جعلوه صنماً يؤلهونه ويقدّمون إليه القرابين، خانوا رحلته ولم يتعلموا درس جوناثان الذى كانت قمة سعادته أن يتجاوزوه لا أن يقلدوه، قتل تلاميذ جوناثان من النوارس الصغيرة مغامرته التى نفى بسببها، قتلوها عندما حولوها إلى طقوس وشعائر، عندما جمعوا الحصى ليبنوا الأضرحة، عندما تشكل من بينهم حزب كهنة الحفاظ على تراثه، عندما تجنّبوا الطيران حول مزاراته المقدّسة، حقاً هم صاروا أكثر أماناً لكنهم أقل حرية.
حرر نورسك، أطلقه من زنزانة صدرك الضيق وتنميط عقلك وجفاف روحك وقضبان حياتك، ردِّد مع جوناثان: «توجد الآن أسباب أكثر للحياة، أسباب أخرى غير جرجرة أنفسنا فى بلادة ذهاباً إلى قوارب الصيد وعودة منها، يوجد سبب للحياة، نستطيع أن ننتزع أنفسنا من الجهل، نستطيع أن نكون أحراراً، نستطيع أن نتعلم الطيران»، «الضجر والخوف والغضب هى ما تُقصر أعمار النوارس»، أهم شىء فى الحياة هو أن تسعى لملامسة الكمال، «الكمال فى الشىء الذى تعشق فعله أكثر من سواه»، «من لا يتعلم شيئاً سيكون عالمه التالى هو نفس عالمه الحالى، بالحدود والقيود نفسها والأحمال الثقيلة نفسها التى عليه أن يغلبها»، «إن جسدك كله، من طرف الجناح إلى طرف الجناح، ليس إلا أفكارك ذاتها، وقد اتخذت شكلاً يمكنك أن تراه، اكسر قيودك وأفكارك، وسوف تكسر قيود جسدك كذلك»، «من حق كل نورس أن يطير، تلك الحرية من صميم طبيعته وكيانه ووجوده، لا بد أن نستبعد أى شىء يقف عقبة أمام تلك الحرية، مهما اتّخذ ذلك الشىء من أشكال طقوس وعادات أو خرافات أو قيود وحدود».
استمع إلى ما قاله الحكيم تشيانج لجوناثان عندما نصحه بأن «يتعلم الرأفة والمحبة»، تعلم من جوناثان الذى حين صار فى مجتمع المنبوذين عرف أن النورس الذى يطير أعلى يرى أبعد، لا تخشَ أن تصبح منبوذاً، فالأنبياء جميعاً كانوا منبوذين فى بداية دعوتهم، صقيع وحدة المنبوذ عن السرب الباحث عن الحقيقة أفضل ألف مرة من نار المنسحق مع القطيع الباحث عن عشب المألوف والبديهى والعادى والزائف، داخل كل منا نورس، افتح له القفص قبل أن يصبح من الدواجن التى لا تبرح حدود العش أو حافة السكين.