بقلم : خالد منتصر
وصلتنى تلك الرسالة من الصحفى والمؤرخ أحمد عثمان الذى يقيم بلندن منذ أكثر من نصف قرن، والذى كان آخر من ودّع العندليب يقول فيها:كنت أزور عبدالحليم حافظ فى كل مرة يأتى فيها إلى لندن، ولم يكن «عبدالحليم» ينزل فى فندق، بل كان يفضّل استئجار شقة مفروشة فى البناية 55 شارع بارك لين -المواجهة لحديقة هايد بارك- حيث كان يحضر معه عادة بعض الأصدقاء، مثل مجدى العمروسى وبليغ حمدى، إلى جانب ابن خالته شحاتة، الذى يلازمه دائماً فى رحلاته.
عند ذهابى لشقته كان عبدالحليم أحياناً يكون نائماً أو فى الخارج، فكنت أنتظر فى غرفة الجلوس حتى ألقاه. وفى إحدى المرات عندما ذهبت للقاء عبدالحليم وكان معه صديقى بليغ حمدى، استقبلنى الملحن منير مراد الذى فتح الباب وأبلغنى أنهما نائمان، وظل واقفاً فى طريقى حتى لا أدخل، فذهبت وقررت ألا أزور عبدالحليم بعد ذلك.
وفى 30 مارس 1977، اتصلت فتاة خليجية -كانت معجبة بعبدالحليم- بزوجتى وطلبت منها إرسال باقة ورد باسمها إلى عبدالحليم فى المستشفى، فقررت أن آخذ الورد لأوصله إليه بنفسى، حيث إننى لم أكن قد زُرته لنحو سنتين.
فى نحو الخامسة مساء وصلت إلى مستشفى كينجز كوليدج بجنوب لندن، المتخصّص فى أمراض الكبد، وهو مبنى قديم موحش له أسقف عالية، واتجهت إلى قسم المرضى الخارجيين. وعندما وصلت إلى الجناح الذى يقيم به عبدالحليم، وجدت مجدى العمروسى وشحاتة فى طريقهما للخروج وهما مكتئبان. تركنى «العمروسى» مع شحاتة دون أن ينبس بكلمة، وغادر الجناح، وقال لى «شحاتة» إن «الأستاذ جاله نزيف، والدكتور مانع الزيارة».
وقفت أمام باب غرفة عبدالحليم الذى كان مفتوحاً، فرأيته مستلقياً فوق السرير، استدار برأسه وقال: «إزيك يا أحمد»، فأبلغته بباقة الورد وتمنيت له الشفاء، ثم جلست مع شحاتة فى الصالون، فقال لى: «الأستاذ كان جايب سيرتك وبيقول ليه ماعدتش بتيجى تزورنا زى زمان»، لم أرد الحديث عما فعله منير مراد، وقلت له إننى مسافر القاهرة فى اليوم التالى لقضاء إجازة الربيع، وسوف أكون معهم يومياً بعد عودتى. وتعجّبت عندما سألنى شحاتة إذا كنت لا أزال ألتقى بسعاد حسنى، حيث لم يكن شحاتة يعرف علاقتى بها، ولا بد أن عبدالحليم هو الذى سأل عن سعاد وهو نائم فى المستشفى.
فى ظهر اليوم التالى، ذهبت مع زوجتى وابنتى إلى مطار هيثرو، وركبنا طائرة «مصر للطيران» المتجهة إلى القاهرة. لكن الطائرة ظلت واقفة فى مكانها بعد إغلاق الأبواب مدة طويلة، ولم تتحرك. سمعت الرجل الجالس ورائى يقول لزوجته إن سبب تأخر الطائرة أنهم يجلبون جثمان عبدالحليم حافظ بعد وفاته، فلم أصدق الخبر وقلت لزوجتى: شوفى الإشاعات، ده أنا كنت معاه فى المستشفى إمبارح لغاية الساعة ستة.
وصلنا إلى القاهرة مساء، وفى صباح اليوم التالى صُدمت عندما قرأت جريدة «الأهرام»، فقد نشر كمال الملاخ خبر وفاة عبدالحليم فى الصفحة الأخيرة، وفهمت أن السيدة نهلة القدسى -زوجة محمد عبدالوهاب- اتصلت بمجدى العمروسى بعد مغادرتى للمستشفى، وأبلغها بخبر الوفاة.
أصابتنى حالة اكتئاب لفترة طويلة بعد ذلك، وعندما قابلت البروفيسور روجر ويليامز -طبيب عبدالحليم- بعد ذلك بعدة سنوات، سألته: لماذا لم تقم بعملية زرع الكبد لعبدالحليم، فقال لى إن هذه العملية لم تكن ممكنة فى عام 1977 عند وفاته، وكان أول نجاح لعملية زرع الكبد عام 1999، بعد 22 عاماً من وفاة عبدالحليم.
وداعاً عبدالحليم بعد 44 عاماً من اللقاء الأخير