بقلم - خالد منتصر
ماذا لو عرف الإنسان موعد موته وتوقيت رحيله؟ فكرة الفيلم السودانى الممتع ببساطته، العميق بفلسفته، اللامس لشغاف القلب بصدقه وحساسيته، ظل رحم الإبداع السينمائى السودانى عقيماً لمدة عشرين عاماً حتى خرج إلى النور هذا الوليد السينمائى الجميل، «ستموت فى العشرين» معزوفة سينمائية تخلط الفلسفة بالشجن والدمع، والموت بالرقص والغناء، وبرود انتظار النهاية، بسخونة وحميمية الجنس، قدم لنا المخرج أمجد أبوالعلا أجمل قصيدة اعتذار عن سنوات التصحر الفنى التى حارب فيها البشير وأتباعه من خفافيش الفاشية الدينية فن السينما، وبالمصادفة تزامن تصوير الفيلم مع قيام ثورة السودان، لكن أحشاء المجتمع السودانى كان ما زال فيها نفايات الكيزان الإخوانية، التى هددت بقتل صناع الفيلم وتفجير دور العرض، لكن الفن انتصر وحصد هذا الفيلم المأخوذ عن رواية الكاتب السودانى المتميز حمور زيادة جوائز من مهرجانى البندقية والجونة وغيرهما من المهرجانات التى احتفت بالفيلم ووضعته على الخريطة العالمية وجعلته يدخل ترشيحات الأوسكار، وعما قريب من الممكن أن نسمع أخباراً مبهجة عن حصاده لجائزة أفضل فيلم أجنبى، الفيلم رحلة انتظار، يكتنفها الغموض، وبرغم عبثية النبوءة فإنك تحس فى كل لحظة بأنها الحقيقة الوحيدة، تذهب الأم فى بداية الفيلم بطفلها مزمل للتبرك بقافلة الدراويش وعلى رأسها الخليفة، يبدأ أحد الدراويش وهو فى حمى الذكر، تتصاعد اهتزازات جسمه حتى يسقط عند رقم العشرين، الخليفة يعلن أن هذا هو السقف الذى حدده الله لحياة مزمل، يغيب الأب فى رحلة طويلة، لتظل الأم سكينة فى حالة الحداد المزمن حتى يعود الأب مكسوراً صامتاً وضيفاً غريباً غير مرغوب فيه، ترتدى السواد، وتعد عدة الرحيل، من كتابة الأيام المتبقية على جدار البيت، حتى تحضير الكفن واختيار القبر وتجهيزه، مزمل صار خائفاً ومرعوباً من أبسط مفردات الحياة، يخاف من الارتباط بنعيمة التى تعلن عن حبها بل ولا تخجل من منحه قبلاتها، لكنه يخاف من مجرد إعلان المشاعر، مرعوب من السباحة فى نهر النيل حتى لا تلتهمه التماسيح، مرعوب حتى من ممارسة اللعب مع أقرانه، إنهم يسمونه ابن الموت، واللعبة الوحيدة التى لعبوها معه هى وضعه فى تابوت، يلجأ مزمل إلى تعلم القرآن، ويعلن أن الشيخ هو الذى يفهم ويفسر ويقرر، يختم القرآن ويصبح أول أطفال قريته الحافظين له، يرسله صاحب الدكان ذات مرة إلى سليمان بزجاجة خمر، يثور مزمل فى البداية، لكن سليمان تلك الشخصية المحبة للحياة مسه بكهرباء سحرية فتحت له نافذة على عالم عجيب ومدهش، سليمان شخصية سينمائية فريدة منسوجة بمنتهى المهارة والإنسانية، مصور جوال فى العالم، عاشق للسينما، يعرض لمزمل على جدار بيته مشاهد من الخرطوم القديمة التى شم منها رائحة البهجة والفرح، حيث صالات الرقص ومسارح الفن، يستمع عنده إلى عبدالوهاب وأسمهان ويشاهد هند رستم، يعزف سليمان على الجيتار «زورونى كل سنة مرة»، يعيش مع صديقته الحميمية حتى الثمالة، يقول لمزمل إنه لو كان مكانه وقالوا له إنه سيموت فى العشرين، لعاش ملكاً ثم بصق عليهم حين يصل لهذا العمر، قال له فى مشهد بليغ فى المسجد أنت مثل تلك الورقة البيضاء لا يخدش بياضها بعض الحبر، بل على العكس نقاط حبر الخطيئة ستبرز ذلك البياض، يموت سليمان، ويرى مزمل قافلة الدراويش فى ميعاد موته، بشارة الموت، فيذهب لينام فى حضن صديقة ورفيقة سليمان، وباختفائه تعلن القرية الحداد، يستيقظ مزمل على سرير سليمان وفى حجرة نومه، ليكتشف أنه ما زال حياً، يخرج ويركض بعيداً عن قريته التى تمجد الحزن والموت، يركض بكل عنفوان وقوة إلى حيث براح الحياة.
«ستموت فى العشرين» يحمل فى عنوانه رائحة الموت، وفى تفاصيله هو صلاة حياة.