بقلم - عماد الدين حسين
خلافا لوجهة نظر توماس فريدمان وآخرين، فإن أمريكا لم تكن هى الخاسرة، ليلة الانتخابات الأمريكية وما تلاها من جدل بشأن من هو الرئيس الأمريكى، ترامب أم بايدن.
وجهة النظر الأخرى تقر بأن انتخاب ترامب قبل 4 سنوات نجح فى توجيه ضربات كثيرة لصورة أمريكا، وأظهر وجهها العنصرى فى أحيان كثيرة، بل وأظهرها وكأنها إحدى جمهوريات الموز، حينما تصرف كحاكم عنصرى ومستبد، يحاول أن يهدم كل المؤسسات الديمقراطية، لكن رغم ذلك فإن صلابة وقوة أمريكا هى التى انتصرت فى النهاية، وأنها «قادرة على إخراج ترامب من البيت الأبيض، مثل أى متسلل أو رجل عجوز دخل ملكية لا تخصه»!!
أمس عرضنا لوجهة النظر التى تقول بأن أمركا خسرت كثيرا بسبب هذه الانتخابات، واليوم نعرض لوجهة النظر المعاكسة.
أصحاب وجهة النظر هذه يقولون إنه حينما يدخل شخص بكل صفات ترامب إلى البيت الأبيض، ويصبح رئيسا ويرتكب كل هذه الأخطاء الكارثية، ثم يتمكن النظام «السيستم» من إخراجه من مكانه، فهذا علامة على قوة أمريكا وليس على ضعفها.
وحينما يتابع معظم سكان العالم هذه الانتخابات وكأنها مباراة فى نهاية كأس العالم لكرة القدم، ويحبسون أنفاسهم، ويعدون الأصوات المتأرجحة فى ميتشجان وبنسلفانيا وجورجيا ونيفادا، بصورة لا يفعلوها مع انتخابات بلادهم، فهذه نقطة قوة لهذه التجربة الديمقراطية.
وحينما يشكو الرئيس وهو فى سدة الحكم، من وجود تزوير ضده فى هذه الانتخابات، وبغض النظر عن صحة ذلك، فإنه يحسب للنظام.
والسبب أن معظم بلدان العالم تشكو من أن الرئيس وهو فى الحكم، هو الذى يقوم بالتزوير أو يتم التزوير لمصلحته، من قبل غالبية مؤسسات وهيئات الدولة، لكن حينما يشكو الرئيس من ذلك، فمعناه أن هناك استقلالية وقوة حقيقيين لمؤسسات الدولة، وأنها تمكنت من صد ورفض محاولات الرئيس للتزوير، ولذلك جاء اتهامها من دون أى دليل.
وحينما تكون وسائل الإعلام فى أمريكا قادرة طوال الوقت على معارضة الرئيس، ورصد كل كلماته وهفواته وذلات لسانه، ثم لا يكون هذا الرئيس قادرا على معاقبتها، أو محاسبتها إلا بالقانون، فإن ذلك دليل حيوى على قوة أمريكا ووسائل إعلامها، التى انسحبت قبل أيام قليلة من تغطية مؤتمر لترامب حينما شعرت أنه يسوق اتهامات التزوير بلا أدلة.
قبل سنوات طرد ترامب أحد مراسلى شبكة الـ«سى إن إن» فى البيت الأبيض، لكن هذا المراسل عاد فى اليوم التالى بحكم قضائى، احترمه ترامب ونفذه حتى لو لم يكن راضيا عنه.
وحينما لا يكون الرئيس قادرا على إجبار حكام الولايات على وقف التصويت أو الفرز، بحجة أن هناك عمليات تزوير فهذا دليل على قوة النظام الأمريكى.
هذه الاستقلالية للولايات فى أمور كثيرة تعطى للنظام الأمريكى قوة كبيرة، لأنها توجد حالة من التوازن بين السلطة المركزية فى واشنطن، وبقية الولايات التى تكاد تتمتع بحكم ذاتى حقيقى فى معظم شئون حياتها باستثناء السياسة الخارجية والدفاع.
وحينما لا يستطيع الرئيس الأمريكى وهو فى الحكم توجيه القضاء لكى يحكم بصورة معينة. ولا يتمكن من إقناعه بوقف عمليات التصويت أو الفرز، فهذا دليل على قوة أمريكا. يظن كثيرون أن تعيين ترامب قبل أيام لقاضية محافظة فى المحكمة العليا هى إيمى كونى باريت، يعنى قدرته على توجيه هذه القاضية أو غيرها لإصدار الأحكام التى يريدها.
صحيح أن القاضية محافظة مثلها مثل غالبية قضاة المحكمة العليا «6 محافظون مقابل 3 ليبراليين»، لكن الأصح أنهم يحكمون فى معظم الأحوال بصورة مهنية، وليس بأهواء شخصية، هم قد يتفقون مع ترامب وغالبية الجمهوريين، فى بعض القضايا مثل حمل السلاح ومعارضة الاجهاض والقيم العائلية، لكنهم لا يخالفون القانون والأعراف القضائية المستقلة.
كما قلت فى المقال السابق، فإن ترامب ألحق أضرارا خطيرة بأمريكا وصورتها، وأظهرها لنا بأنها مثل بلدان العالم الثالث فى العديد من الأمور الخاصة بالانتخابات لكن قوة أمريكا الحقيقية هى التى تمكنت من إخراج ترامب من البيت الأبيض.
وظنى أن السؤال الجوهرى الذى ينبغى أن يسأله الأمريكيون والعالم كله هو «هل كانت المشكلة فى شخص ترامب فقط، أم أن المشكلة الحقيقية فى وجود أكثر من سبعين مليون شخص ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، وصوتوا لمصلحة هذا الرجل وأفكاره؟!.
ظنى أن تلك هى المشكلة الحقيقية حتى لو كان نصفهم فقط يؤمن بأفكار وسياسات وأساليب ترامب».