بقلم : محمود خليل
إذا تملَّك من يتحدث إلى الجمهور إحساس بالتعالى فإنه يعجز عن الوصول إليه برسالته. تلك حقيقة تثبتها التجربة فى دنيا السياسة والإعلام والثقافة والأدب والفن وكافة أشكال التواصل مع الناس.
لا يصح أن يتعالى الإنسان على بشر هو جزء منهم، فلا فضل لأحد على أحد، بل الفضل كل الفضل للبلد الذى نعيش فى رحابه ويضمنا ترابه.. والفضل، من قبل ومن بعد، لخالق الأرض الذى يسّر لنا الحياة فوقها.
جمال عبدالناصر حقق زعامته عبر جسر الاحترام الذى بناه بينه وبين الشعب، فقد دأب -رحمه الله- على وصف هذا الشعب بـ«الشعب المعلم». واجتهاده فى هذا السياق كان مرده الإيمان بأن هذا الشعب كبير ويصح أن ينتقى من يخاطبه الألفاظ التى يحدثه بها، وكذلك سار كل رؤساء مصر من بعده عند مخاطبتهم للشعب.
نجيب محفوظ حقق عالميته عبر الالتحام بهذا الشعب، كان يأخذ منه فكراً وفناً ولغة وشخوصاً وحكايات ويتمثلها فى نفسه ثم يخرجها إبداعاً قصصياً.
يظل نجيب محفوظ نموذجاً على الدور الذى يلعبه «الالتصاق بالمحلية» فى الوصول إلى العالمية. كان رحمه الله عبقرياً فى تطبيق معادلة: «فكر محلياً وتصرف عالمياً». فكان يختار مما هو محلى أفكاراً لها صدى عالمى، وينتقى شخوص رواياته من الواقع المحلى، ولكن بشرط أن يتشابهوا مع بنى الإنسان فى بلاد الله المختلفة.
محمد حسنين هيكل حقق أستاذيته عبر التواضع فيما كان يقدمه من تحليلات لحقائق السياسة والتاريخ. عندما كان يذكر رأياً أو يقدم استخلاصاً كان دائماً ما يسبقه بعبارة «أخشى أن أقول»، وما أكثر ما كان يستخدم كلمة «أظن» قبل ما يريد قوله، ثم يردفها بعبارة «وليس كل الظن إثماً».
أم كلثوم حققت شهرتها من خلال احترامها لجمهورها. أذكر أننى شاهدتها فى حوار أرشيفى مع الإعلامية الراحلة «سلوى حجازى» تقول: أنا دائماً أخاف من الجمهور، فتعجبت الإعلامية من المقولة وسألتها: هل تخافين من الجمهور وأنت فى قمة المجد الفنى؟ فردت «الست»: نعم أشعر بالخوف فى كل مرة ألتقى فيها الجمهور لأنى أحترمه.
محمد عبدالوهاب حقق حضوره الفنى الطاغى من خلال احتفائه بالجمهور. سأله الإعلامى «مفيد فوزى» مرة عن موت الفن، فعلق عبدالوهاب قائلاً: يموت الفن إذا مات الجمهور.
ليس فى مقدور أحد أن ينجح مع الجمهور إلا بالتواضع له، وفهمه فهماً جيداً، واستيعاب طرق تفكيره، وما يزعجه وما يطمئنه، وما يثير غضبه وما يستوجب رضاه.
ليس معنى ذلك نفاق الجمهور أو المجموع، فالأصل أن تكون الحقيقة هى جوهر التواصل معه. ومن حق الناس أن تقبل أو ترفض.. المهم أن تنقل لهم الحقائق باللغة التى تليق.
فارق كبير بين خطاب قد يصدم سامعه لكنه يستشعر فيه الصدق والاحترام، وخطاب آخر يشعر سامعه أن المتحدث به يتعالى عليه أو يستخف به.
الخطاب الذى لا يحترم الجمهور ولا يعتمد على الحقائق ولا يغلفه الصدق، حتى ولو كان ينافق الناس ويدغدغ مشاعرهم بمعسول القول، لا يؤثر فيهم.. فما بالك إذا كان خطاباً عصبياً متشنجاً!
حب الشعب يحبك.