عبد الرحمن الراشد
تجدُّ إيران في شد الولايات المتحدة إلى جانبها في المعركة الإقليمية الواسعة، تحديدا في سوريا والعراق واليمن وغزة، وكذلك البحرين. وهذه هي المرة الأولى التي يبدل فيها الإيرانيون استراتيجيتهم بعد أن كانت في الماضي تقوم على تحييد القوة الأميركية، بتهديدها أو إخافتها، كما جربت في أفغانستان والعراق ولبنان. اليوم، تتبنى طهران سياسة التقارب مع الأميركيين، وتقدم نفسها على أنها حليف يمكن الاعتماد عليه في حسم، وليس فقط إدارة الأزمات الإقليمية، وكذلك الاتكال عليه كقوة إقليمية في تأمين المصالح الغربية الرئيسية.
وهذا التوجه انقلاب كبير في التفكير الإيراني، ويعبر عن حالة من الاعتراف بفشل السياسة القديمة التي قامت على إثارة القلاقل ضد الشيطان الأكبر، وفرض إيران قوة نووية، الآن هي تتطلع إلى اتفاق شامل مع واشنطن أبرز عناوينه النووي.
لكن لا يزال أمام النظام الإيراني مسافة ليست بالقصيرة عليه أن يسيرها حتى يتمكن من التوصل إلى اتفاق واسع يتجاوز النووي ويجعله شريكا في الأمن الإقليمي. على طهران أن تثبت أنها قادرة ميدانيا على إدارة المعارك وفرض خياراتها السياسية، سواء في مواجهة تنظيمات إرهابية مثل «داعش»، أو تمكين بغداد من فرض سلطتها على كل التراب العراقي، وهزيمة الثوار في سوريا، وإعلاء دور الحوثيين وحلفائهم في اليمن، وتحقيق الاستقرار في لبنان عبر «حزب الله»، وأخيرا ضمان سلوك جيد من قبل حليفتها حركة حماس في غزة.
تحقيق المهمة أكبر من قدرات إيران، لكنها إن نجحت في أزمة واحدة، مثلا سوريا، ستستطيع إطفاء الأزمة في العراق، وليس صعبا عليها تقييد حركة حماس في غزة. والأرجح أن ما يقال عن تقارب أميركي إيراني يبدو صحيحا لكنه مبني على أوهام أن إيران قادرة على حسم القضايا الصعبة، بدعوى أنها أصلا طرف فيها. وفي رأيي ليس صعبا إثبات خطأ التفكير الأميركي الذي يصدق بنفوذ إيران. وحتى تفشل، ولا توهم العالم أنها مفتاح المنطقة الذهبي، وأنها في واقع الأمر ليست إلا طرفا قادرا على التخريب فقط، وفاشلا في إصلاح أي أزمة، حتى نثبت ذلك لا بد من العودة إلى المربع السوري. هذه المعركة تحتاج إلى حسم؛ والإيرانيون يدعون أنهم على وشك تحقيقه، ويقنعون التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، بالتعاون معهم بدعم جيش النظام السوري، بالمعلومات واختيار الأهداف، لضرب الجماعات الإرهابية، وتقزيم الجيش الحر. وهنا نلاحظ أن الجانب الأميركي يستخدم عبارة إجبار الأسد على العودة إلى التفاوض! وهي عبارة مطاطة قد تعني المشروع الروسي الإيراني السابق بالاحتفاظ بنظام الأسد، والأسد رئيسا، مع بعض المناصب الوزارية للمعارضة، والمعارضة هنا نوعان؛ واحدة من اختراع الأسد نفسه مرفوضة تماما من معظم السوريين، والمعارضة الشرعية التي حضرت في مؤتمر جنيف الثاني. إجبار الأسد على التفاوض بدلا من الخروج، يصب في مصلحة إيران، بفرض نظام ملائم لها، يمكنها لاحقا من الهيمنة على العراق ولبنان، وتصبح الدولة شبه الوحيدة التي تملك ضمانات سلامة أمن إسرائيل، وصاحبة كلمة مهمة في اتفاق سلام إقليمي مقبل.
من المهم استيعاب كل المشهد وليس مجرد معاركه المتفرقة، نحن أمام تفكير جديد وانقلاب في السياسة الإيرانية، ونتعامل مع رئيس أميركي، فعلا، مصاب برهاب مشاكل الشرق الأوسط ويريد تحاشيها، ويعتقد أن العرب يعيشون مرحلة خمول، خاصة مع غياب دولهم الكبرى. وربما صار الرئيس باراك أوباما مستعدا لأي صفقة مريحة، لهذا تنازل كثيرا لإيران من خمسمائة جهاز طرد مركزي إلى 3 أضعاف هذا الرقم، ومستعد لرفع العقوبات عن إيران دون المرور على الكونغرس، بما يُبين رغبته الشديدة في التوصل إلى اتفاق سريع. ونحن ندرك أنه سيحصل على نصر إعلامي، بأنه إنجاز تاريخي لكنه اتفاق سيطلق عنان نظام إيران، الذي هو مصدر شرور المنطقة منذ عام 1979. وسيكتشف الأميركيون لاحقا أنهم مكنوا الفوضى والقوى الشريرة من كل المنطقة!
على المعسكر العربي أن يفكر جديا في خطورة تبعات ما يحدث. هذه ليست مؤامرة بل لعبة شطرنج، وسوريا حجر أساسي فيها، وهي في نظري منطقة الضعف في الاستراتيجية الإيرانية التي يصعب عليها النجاح فيها، رغم كل ما تدعيه. فسوريا، بخلاف العراق، 80 في المائة من سكانها ضد أي نظام موالٍ لإيران، برئاسة الأسد أو غيره. والنظام لا يحكم اليوم سوى أقل من ثلث البلاد. والجيش الحر، رغم ما أصابه من تهشيم، نفذه بجدارة تنظيما داعش وجبهة النصرة، يبقى المعسكر القتالي الوحيد المؤهل للتطوير والحكم لاحقا، ويمثل مكونات الشعب السوري بأطيافه. بدعمه، ودفعه، ستضطر الولايات المتحدة للتعامل معه، وسيفشل مشروع إيران بالسيطرة على دمشق، وستضعف تلقائيا في لبنان والعراق. لكن، وبكل أسف، لاحظنا تراجع الدعم للجيش الحر إلا من الوعود الأميركية، التي، حتى وإن ثبت تحقيقها لاحقا، ستكون مشروطة على «الحر» بالقبول بصفقة حكم جائرة في دمشق، أي ستضعف «الحر» ولن تخدم أهدافه؛ سيكون مجرد كتيبة عسكرية في المشروع الإيراني الأميركي لسوريا الجديدة.
وهنا على الدول العربية التي تحاول شق الائتلاف والجيش الحر، وكذلك تركيا، أن تدرك أنها ترتكب خطأ سياسيا جسيما، والنتيجة ستمكن الإيرانيين من دمشق، كما مكنوا «حزب الله» من بيروت في سنوات العقد الماضي، والتي يدفع ثمنها اللبنانيون والعرب إلى اليوم بكل أسف. لقد ضربتم الاعتدال اللبناني قبل 10 سنوات، والآن تضربون المعارضة السورية المدنية المعتدلة.