عبد الباري عطوان
وجّه أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للام المتحدة، نداءً أمس بوقفٍ فوريٍّ لإطلاق النّار في مُختلف أنحاء العالم لتركيز الجُهود على مُكافحة وباء “الكورونا” القاتل، وإنقاذ الشّعوب التي تجري الحُروب على أرضها من أخطاره.
السيّد غوتيريش، ومثل نظيره أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربيّة، أطلق نداءه هذا دون أن يُحدِّد الجهة التي تقف خلف مُعظم أو كُل هذه الحُروب، وتُموّلها بالمال والعتاد، وتَفرِض الحِصارات والعُقوبات، لأنّه يخشى على نفسه ومنصبه، وهو الذي تجاوز السّبعين من عُمره، ولا يملك الجُرأة لتسمية الأُمور بأسمائها دون خوفٍ في المرحلة الحَرِجَة في تاريخ البشريّة.
فالولايات المتحدة هي التي غزَت العِراق واحتلّته، وهي التي قادت حلف النّاتو لتدمير ليبيا وتحويلها إلى دولةٍ فاشلة، وتقف خلف الحرب الأهليّة الدائرة حاليًّا فيها، والرئيس دونالد ترامب اعترف بعظمة لسانه أنّه أنفق 90 مِليار دولار في سورية، ويَسرِق نفطها، ويُوظِّف عوائده في تمويل جماعات انفصاليّة وإرهابيّة، ولا نَستبعِد صحّة الاتّهامات الصينيّة بأنّها تَقِف خلف انتِشار هذا الفيروس.
كنّا نتمنّى لو أنّ امين عام الأمم المتحدة قد طالب أيضًا بإنهاء الحِصارات والعُقوبات الاقتصاديّة التي تُجوِّع عشَرات الملايين في بُلدان عديدة، وخاصّةً إيران وسورية وقِطاع غزّة، عُقوبات تشمل إغلاق الحُدود ومنع استِيراد كُل شيء بِما في ذلك الأدوية، بِما يُؤدِّي إلى استِشهاد الملايين مثلما حصل في العِراق في مرحلةِ التّسعينات من القرن الماضي، فكيف تستطيع هذه الدول المُحاصَرة أن تُواجِه هذا الوباء، وتتصدّى له، وتُنقِذ مُواطنيها من فتكه وهي بالكاد تُوفِّر وجبه طعام واحدة في اليوم لمُواطنيها، وتتجمّد أموالها في المصارف الغربيّة، ولا تستطيع استِيراد الأسبرين.
فيروس كورونا خطيرٌ لا شكَّ في ذلك، وتتطلّب مُكافحته تعاون العالم بأسره، ولكنّه يظل أرحم بكثيرٍ من حُروب أمريكا، وفي مِنطقتنا الشرق أوسطيّة على وجه الخُصوص، وهي الحُروب التي أدّت إلى مقتل الملايين، وتشريد أضعاف هذا الرّقم عشَرات المرّات، ولعلّ الجانب الإيجابي منه، رغم كُل ذلك، أنّه ربّما يكون السّبب الأبرز لوضع بداية النّهاية للإمبراطوريّة الأمريكيّة، وتخليص العالم من شُرورها وحُروبها.
***
لا نحتاج إلى صحيفة “الواشنطن بوست” الأمريكيّة لكيّ تُبلِغنا في افتتاحيّة عددها الصّادر اليوم بأنّ الأضرار الجسيمة التي ألحقها هذا الفيروس بالحياة والاقتصاد الأمريكيين قد تُؤشِّر إلى تراجعِ القيادة الأمريكيّة للعالم، فعندما تفتقد القيادة الحدّ الأدنى من الإنسانيّة، وتُدير ظهرها لمصائب أقرب النّاس إليها، ولا تُقدِّم “قناعًا” واحدًا لمُساعدة الملايين من المُتضرِّرين من هذا الوباء وهي الدّولة الأقوى والأعظم والأغنى في العالم، فلا أسَف عليها وقِيادتها، فقد سقطت في أوّل وأهم اختبار إنساني.
العظَمَة لا تأتي بالقتل والحُروب، وتجارة السّلاح، والابتزاز والحِصارات، إنّما بالأخلاق ونشر قيم العدالة والإنسانيّة، والوقوف إلى جانب الضّعفاء، ونُصرة المظلومين، وجميعها مآثٌر وسُلوكيّاتٌ لا مَكان لها في القاموس الأمريكيّ، بطبيعته القديمة والجديدة.
لم نسمع أو نقرأ، أنّ الحُكومة الأمريكيّة أرسلت شوال أرز واحدًا إلى قطاع غزّة، أو المواد الكيماويّة اللّازمة لعلاج المجاري وتنقية المياه، أو بعثة طبيّة واحدة لعِلاج حالات الكوليرا المُتفشّية في اليمن وتحصد الأرواح، وأمراض فقر الدم في مخيّمات اللّاجئين السوريين على جانبيّ الحُدود التركيّة السوريّة، وملايين الجَوعى في العِراق أثناء الحِصار، وفي مناطق حركة الطالبان في أفغانستان، ولكنّنا قرأنا وسَمِعنا عن صفقات الأسلحة، والطائرات الأمريكيّة المُسيّرة التي أُستُخِدمَت وتُستَخدم في قصف الأعراس ومجالس العزاء والمدارس ورياض الأطفال، مِثلَما سمعنا أيضًا عن اليورانيوم المنضب الذي استخدمته بالقذائف الأمريكيّة في حرب العِراق، ونشر أمراض السرطان، وأدّى إلى وِلادة جيل من الأطفال المُشوّهين.
نعم.. نحن لا نكن أيّ ود للإدارات الأمريكيّة المُتعاقِبة وسياساتها الوحشيّة، وليس للشّعب الأمريكي، فكيف لا وهي التي تُمارس أبشع أنواع العُنصريّة ضدّنا، وتدعم حكّام أعداء الإنسانيّة في بلادنا، وتسرق مِئات المِليارات من ثرواتنا، سواءً بشكلٍ مُباشر أو غير مُباشر، من خِلال أوامرها بخفض أسعار النفط، وبيع صفقات أسلحة انتهى عُمرها الافتراضي، لإنقاذ اقتِصادها، وتوفير الوظائف لعاطِليها.
فيروس “كورونا” فضح العنصريّة الرسميّة الأمريكيّة، وفشل أنظمتها الصحيّة، مثلما فضَح أنانيّتها، وعدم اهتِمامها بمُعاناة الآخرين، فبينما تتوافد الطائرات الصينيّة والروسيّة إلى مطارات إيران وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا مُثقلةً بالمعدّات الطبيّة والخُبراء، يُغلِق الرئيس ترامب أجواء بلاده مع أوروبا، ومُعظم دول العالم، ويَرصُد مبلغ 100 مِليون دولار لمُساعدة الدول المُتضرّرة، وهل أقل بكثير من المبالغ التي دفعها لنِساء لإسكاتهنّ، ومنعهنّ من الحديث عن فضائحه، وتمنعنا قيمنا وعقيدتنا وتربيتنا من الخوض في التّفاصيل أكثر.
***
فإذا كانت حرب السويس والعُدوان الثّلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي تُؤرِّخ لانهِيار الإمبراطوريّة البريطانيّة التي كانت لا تغيب عنها الشّمس، فإنّ فيروس كورونا قد يُسَجِّل بَدء العد التنازليّ لنِهاية الإمبراطوريّة الأمريكيّة، أو هكذا نأمل.. “تفاءلوا بالشّيء تَجِدوه”.
شُكرًا للصين وروسيا.. شُكرًا لدولة كوبا الصّغيرة مساحةً الكبيرة إنسانيّةً أيضًا، على كُل ما قدّموه ويُقدِّمونه من مُساعدات للمُتضرِّرين من هذا الوباء، ففي اللّحظات الصّعبة تظهر القيم الأخلاقيّة، وتَسقُط الأقنعة عن الوجوه الفاقِدة لماء الحياء وقيم التّكافل الإنسانيّ، وإنّما الأُمم الأخلاق..