عبد الباري عطوان
تابعنا خِطاب الرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس أمام اجتماع وزراء الخارجيّة العرب الذي انعَقد اليوم في القاهرة، ووجدنا لِزامًا علينا التوقّف عند الكثير من النّقاط التي وردت فيه وزادت الوضع غُموضًا، وأبرزها أنّه لم يُعلِن صراحةً أنّه قرّر إلغاء التّنسيق الأمنيّ وحلّ السّلطة، والانسِحاب من اتّفاق أوسلو وجميع الالتِزامات المُترتِّبة عليه، واكتفى بالقول إنّه قرّر قطع جميع العُلاقات مع دولة الاحتلال بما فيها العُلاقات الأمنيّة.
هُناك فرقٌ بين قطع العلاقات، وتطبيق قرارات المجلس المركزي، فالقول بأنّه أبلغ الإسرائيليين بتحمّل مسؤوليّاتهم كقوّة احتلال، ودون إعلان صريح بحل السّلطة، يعني أنّ هذه السّلطة مُستمرّةٌ في أداء دورها، فعندما قرّر الرئيس ياسر عرفات حلّ المجلس التشريعيّ قال ذلك صراحةً، ودون أيّ لفّ ودوَران، وأغلق باب مقر المجلس بالشّمع الأحمر حتّى هذه اللّحظة.
كان لافتًا أنّ الوضع الصحيّ للرئيس عبّاس في حال من التّدهور، وكان مُرتَبِكًا أثناء إلقاء الخِطاب، ولاحظ من تابعوا هذا الخِطاب أنّ الدكتور صائب عريقات يُلقِّنه بعض فقراته، ولا نَستبعِد أنّ المُحيطين به هُم الذين يُسيطِرون على الموقف، وربّما صاغُوا الخِطاب حتى يأتي غامِضًا، وبِما يُؤدِّي إلى استِمرار الأوضاع على حالها.
***
تظل تطوّرات الأوضاع على الأرض هي الكَفيلة بتوضيح مدى جديّة هذا الموقف، والشّيء نفسه يُقال أيضًا عن ردِّ الفِعل الإسرائيليّ على هذا الخِطاب وما ورد فيه، فإذا كانت خطوة إيقاف التّنسيق الأمنيّ جديّة، وهو التّنسيق الذي يُشَكِّل العمود الفقري لاتّفاقات أوسلو، والسّبب الرئيسي لبقاء السّلطة وتدفّق أموال الدّول المانِحة إليها، فإنّه من غير المُستَبعد أن لا تسمح السّلطات الإسرائيليّة للرئيس عبّاس بالعودة إلى رام الله.
الرئيس عباس قال أكثر من مرّةٍ إنّه لن يتخلّى عن القدس المحتلّة، ولن يسمح ببيعها، لأنّه لا يُريد أن يدخل التّاريخ خائنًا، وأن يُكرِّر هذا الكلام اليوم في خِطابه أمرٌ جميل، ولكن في إطار خطّة مُواجهة مُتكاملة، ووفق برنامج مُقاومة واضِح المعالم.
نعترف أنّنا نَكتُب بحذرٍ شديدٍ نحنُ الذين طالبنا دائمًا بحلّ السّلطة، ووقف التّنسيق الأمنيّ والانسِحاب من أوسلو بعد انهِيار حلّ الدولتين، وتغوّل الاستيطان، وضمّ القدس والاعتِراف بها كعاصمة أبديّة لدولة الاحتلال بدعمٍ أمريكيّ، ولكن غُموض خِطاب الرئيس عبّاس، والرّد “الباهِت” عليه في الأراضي المحتلّة، يدفعنا إلى التريّث، وإذا كانت مواقف الرئيس عبّاس هذه جديّة ولا رجعة فيها، فإنّنا والملايين مِثلنا سيقفون في خندقه، لأنّ الانسِحاب من اتّفاقات أوسلو، وكُل ما تفرّع عنها من التِزامات هو الأرضيّة الصُّلبة التي تُوَحِّد السّاحة الفِلسطينيّة وتُعيد القضيّة الفِلسطينيّة إلى المُربّع الأوّل، مُربّع المُقاومة بأشكالها كافّة.
حركة “فتح” التي يتزعّمها الرئيس عبّاس، وقادت النّضال الفِلسطيني طِوال الأربعين عامًا الماضية، وقدّمت آلاف الشّهداء والجرحى والأسرى، تستطيع أن تُغيّر كُل المُعادلات على الأرض، وتُعيد للثّورة الفِلسطينيّة زخَمها، وتُسقِط صفقة القرن بالتّعاون والتّلاحم مع كُل فصائل المُقاومة الأُخرى، إذا أعطاها الرئيس عبّاس الضّوء الأخضر للتّحرُّك.
***
خِتامًا نقول إلى العرب المُتخاذِلين المُطبِّعين الذين يَقِفون في الخندق الإسرائيليّ، ويُعايرون الفِلسطينيين بأنّ عليهم العودة إلى التّفاوض مع حُلفائهم الإسرائيليين الجُدد، لأنّ رفضهم الحاليّ، مِثل رفضهم لكُل الصّفقات الأُخرى يقود إلى المزيد من الخسائر وضياع فُرص السّلام، نقول إلى هؤلاء بأنّهم آذا كانوا قد قَبِلوا بضَياع القدس وفِلسطين والاستِسلام للإملاءات الأمريكيّة والإسرائيليّة، فإنّ شُعوبهم، والشّعب الفِلسطيني، لن تقبل بهذا الهوان والإذلال، وستُواصِل التّضحيات حتى تحرير كُل الأراضي والمُقدّسات العربيّة والإسلاميّة في فِلسطين المحتلّة.
الفِلسطينيّون سايَروا خُذلانهم وقَبِلوا بكُل قرارات الشرعيّة الدوليّة، ومُبادرة سلامكم، ووقّعت قِياداتهم اتّفاق أوسلو بضَغطٍ منكم وبعد أن حاصرتموها، وجوّعتم شعبها، والآن جاء وقت الحِساب من شُعوبكم التي تَقِف في خندق الكرامة وعزّة النّفس.
الأيّام المُقبلة ستكون مصيريّة، وإرهاصات الانتفاضة بدأت في الظّهور، وربّما تتطوّر إلى صُورة الانتِفاضات الأُولى والثّانية وما بينهما، وحلّ السّلطة هو الطّريق الوحيد لعودة الأُمور إلى طبيعتها، أيّ شعب تحت الاحتِلال الأكثر عُنصريّة في التّاريخ الحديث، وبُدون “وسيط” فِلسطيني يقوم بالأدوار الأمنيّة القَذِرَة.
المُقاومة هي التي حرّرت جنوب لبنان وقِطاع غزّة، وهي التي أسقطت النّظام العُنصري في جنوب إفريقيا، وزوال السّلطة وكُل هياكل أوسلو سيُغيِّر الوضع ليس في فِلسطين المحتلّة وإنّما في مِنطَقة الشّرق الأوسط كُلّها.. والأيّام بيننا.