عبد الباري عطوان
ليس من حقِّ الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب أن يرفُض الطّلب الذي تقدّمت به الحُكومة العِراقيّة رسميًّا بسحب جميع القوّات الأمريكيّة من العِراق لأنّ هذا الرّفض يتعارض مع قرار البرلمان، والمُعاهدة المُوقّعة بين الجانبين التي وفّرت الغِطاء القانونيّ لوصول 5300 جندي أمريكي للقِيام بأعمال التّدريب، والمُساعدة في مُحاربة الدولة الإسلاميّة “داعش”، فالعِراق لم يَعُد بحاجةٍ إلى هذه المُساعدة من دولةٍ مُعتديةٍ مُحتلّةٍ، و”الدولة الإسلاميّة” انهارت.
***
الأخطر من هذا الرّفض الذي يُؤكِّد وجود نوايا عدوانيّة أمريكيّة بعيدة المدى تُجاه العِراق والمِنطقة برمّتها أمران رئيسيّان:
الأوّل: إعلان وزارة الخارجيّة الأمريكيّة أنّها تدرس خططًا لتوسيع وجود حِلف شِمال الأطلسي في العِراق، ممّا يعني استقدام قوّات وآليّات جديدة في تحدٍّ للبرلمان والحُكومة العِراقيين، وتِكرارًا للغزو السّابق، وتحت ذرائع جديدة كاذبة أيضًا.
الثّاني: تصريح أدلى به الرئيس ترامب لمحطّته المُفضّلة “فوكس نيوز” وقال فيه “إذا أراد العِراق منّا المُغادرة فعليه أن يدفع لنا الأموال التي خسرناها في البلد، وإلا سنبقى هُناك”.
بالنّسبة إلى النّقطة الأولى، أيّ رفض الحُكومة الأمريكيّة للطّلب العِراقي الرسميّ بالانسحاب، والرّد الوَقِح بدراسة توسيع وجود حِلف الأطلسي، يُمكن القول أنّ أمريكا ما زالت تتعاطى مع العِراق كقُوّة احتلال، ولا تُعير السّيادة العِراقيّة أيّ اهتمام، ولا تعترف بالحُكومة التي فرضتها على الشّعب العِراقي بعد الغزو.
السيّد عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء المُستقيل، كان مُحِقًّا عندما حذّر الأمريكيين من دخول قوّات، وآليّات، وتحليق مروحيّات أمريكيّة في أجواء العِراق بدون إذن من الحُكومة العِراقيّة، فهذه المُمارسات تُشكِّل إهانةً للدولة والشّعب العِراقي، سبقتها دُخول الرئيس الأمريكي ووزير خارجيّته الأراضي العِراقيّة، وزيارة قاعدة “عين الأسد” أثناء أعياد الشّكر والميلاد، دون حتّى إخطار الحُكومة العِراقيّة مُسبَقًا، ممّا يعني أنّ الاستِخفاف بهذه الحُكومة ليس وليد الأحداث الأخيرة.
أمّا بالنّسبة إلى النّقطة الثّانية، وهي مُطالبة ترامب الحُكومة العِراقيّة بدفع نفقات الغزو والاحتِلال الأمريكي للعِراق، فإنّها تعكِس “تقزيمًا” للعِراق وإهانةً للعقل البشريّ أيضًا، فالغزو ومن ثمّ الاحتلال، لم يتمّا بطلبٍ عِراقي، وجسّدَا عُدوانًا قام على ذرائعٍ كاذبةٍ، والطّرف الذي يجب عليه أن يدفع للعِراقيين هو المُحتل الأمريكي الذي فرض حِصارًا على العِراق امتدّ لأكثر من 12 عامًا وأدّى إلى استشهاد أكثر من مِليونيّ عِراقي، سواءً بسبب الجُوع، أو بسبب الغارات والقصف بالصّواريخ والقنابل المُنضدّدة باليورانيوم، وما زالت آثارها السرطانيّة تحصُد أرواح آلاف المرضى من العِراقيين.
أمريكا هي التي خلقت هذه الأزَمات التي تتفجّر في المِنطقة، سواءً بسبب احتِلالها أو انسِحابها من الاتّفاق النّووي مع إيران بتحريضٍ إسرائيليٍّ، أو باغتِيالها للفريق قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ورفيقه العِراقي أبو مهدي المهندس، نائب قائد الحشد الشعبي، واعتقال خليّة تجسّس من ثلاثة أشخاص في مطار بغداد قدّموا لها المعلومات عن قُدومهما على متنِ طائرةٍ مدنيّةٍ عاديّةٍ من دِمشق، سيَكشِف الكثير من المعلومات حول هذه المَسألة حتمًا.
الشّعب العِراقي العظيم الذي أخرج القوّات الأمريكيّة بقوّة المُقاومة مع نهاية عام 2011 سيُكرِّر هذه الأعمال البُطوليّة مرّةً أُخرى، تمامًا مثلما فعل أشقاؤه في أفغانستان وأصدقاؤه في فيتنام، وسيأتي اليوم الذي تتوسّل فيه السّلطات العِراقيّة، مِثلَما تفعل حاليًّا مع طالبان، لتأمين انسحابٍ آمِن.
***
أمريكا لا تستطيع، ولا يجب، أن تدوس على كرامة الشّعوب وتنتهك سِيادتها، وتقتل رموزها بهذه الطّريقة الاستفزازيّة ولا تُقابَل بردٍّ شرس، وكُل حديث عن عظمة قوّتها من قبل البعض هو تضليل يجب أن يُقاوم بكُل الوسائل، فأمريكا التي هُزِمَت وانسحبت بشكلٍ مُذِل من العِراق عام 2011 هي نفسها التي تُريد إعادة تكريس احتلاله في الوقت الرّاهن، وإذا كانت خسرت 6 تريليونات دولار على الأقل في غزوها الأوّل، قد تخسر الرقم نفسه في مُحاولاتها الحاليّة للغزو الثّاني، فهي الآن أضعف، وتُواجِه الهزائم في كُل حُروبها الاقتصاديّة والعسكريّة، ولم تعُد القوّة الوحيدة المُهيمنة على العالم.
العِراق لن يخضع، ويجب أن لا يخضع، لهذا الابتزاز الأمريكي بشقّيه المالي والعسكري، فهو ليس جمهوريّة موز، ولا دولة قامت واستمرّت بشُروط الحِماية الأمريكيّة، وإنّما دولة تمتد جُذورها الحضاريّة لأكثر من ثمانية آلاف عام، وجينات شعبها تحمل كُل صِفات الإباء والكرامة والشّمم والكِبرياء الوطني والديني والأخلاقي، وسيُقاوم الاحتلال الأمريكي بكُل الوسائل، وسيُقدِّم الشّهداء مِثلَما فعل في المرّة الأُولى بكرمٍ وشجاعةٍ ورُجولة.. والأيّام بيننا.