عبد الباري عطوان
مِصر تعيش هذه الأيّام أزمةً مُزدحمةً تقِف في مُواجهتها وحيدةً دون أيّ دعم عربيّ أو دوليّ، الأولى وجوديّة تتعلّق بفشل خمس جولات من المُفاوضات التي جاءت في إطار وِساطة أمريكيّة بحثًا عن حُلولٍ للخِلاف حول تشغيل سد النّهضة ومِلئ خزّاناته بالمياه، والثانية في الغرب، وليبيا بالذّات، وتتعلّق بالأمن القوميّ المِصريّ بشقّيه السياسيّ والعسكريّ.
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أصغر زُعماء إفريقيا سِنًّا (43 عامًا)، يتمتّع بدهاءٍ كبير، اكتسبه من عُلاقاته الوثيقة بدولة الاحتلال الإسرائيلي الذي زارها أكثر من مرّة، واستقبل رئيس وزرائها بنيامين نِتنياهو في مقرّ قمّة الاتّحاد الإفريقي في أديس أبابا، وهُناك اعتقادٌ سائدٌ بأنّ نسبة كبيرة من مُستشاريه إسرائيليّون في مُختلَف المجالات.
الرئيس أحمد خدع الأشقّاء المِصريين بكلامه المعسول، والقسَم على المُصحف، وربّما الإنجيل، بأنّه لن يُقدِم على أيّ خطوة تُلحِق ضررًا بحصّتهم من مِياه نهر النيل، فصدّقوه وأشادوا به، وفتحوا له بعد الإريتريين أبواب جائزة نوبل للسّلام ليفوز فيها دون مُنازع، ودون أن يُحقِّق أيّ سلام مع مِصر، أو يتنازل عن مترٍ مكعّب من مياه النيل، وربّما ينخرط معها في حربٍ مُدمّرةٍ، إذا فشل لقاء واشنطن الثّلاثي لوزراء الخارجيّة والريّ في الدول الثّلاث (مِصر والسودان وإثيوبيا) الذي سيُعقَد اليوم حيث تُؤكِّد مُعظم المؤشّرات أنّ احتمالات فشَله والانهيار للوِساطة الأمريكيّة (انعقدت خمسة لقاءات حتى الآن في مِصر وإثيوبيا والسودان دون نتيجة)، أكبر بكثير من احتمالات النّجاح، والاحتمال المُرجّح أن يتم تمديد المُفاوضات لشهرٍ أو آخر، وهذا ما تُريده إثيوبيا لإطالة أمَد مرحلة الغُموض، والآلام المِصريّة.
***
استراتيجيّة رئيس وزراء إثيوبيا الثّعلب الدّاهية آبي أحمد، هي إطالة أمد المُفاوضات إلى أقصى قدرٍ مُمكنٍ، وحتّى يكتمل بِناء سد النّهضة في عام 2023، ودون تقديم أيّ تنازلات عن مواقفه المُتصَلِّبة لمِصر تحديدًا، وبِما يُمكّنه من فرض أمر الواقع تحت عُنوان السّيادة.
هذه الاستراتيجيّة تُذكّرنا بنظريّتها التي اتّبعتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في مُفاوضات أوسلو مع الفِلسطينيين التي امتدّت لحواليّ 25 عامًا، واستولت خلالها الدولة العِبريّة على مُعظم الضفّة الغربيّة ومِياهها، وأرضها وتِجارتها، وهي الآن بصدد ضمّها وبدعمٍ أمريكيّ، وتحوّلت السّلطة الفِلسطينيّة إلى “غيتو” في رام الله تُطارِدها اللّعنات، وطار حَلُّ الدّولتين في المجهول.
المُخطّط الإثيوبي السرّي غير المُعلن طبعًا، هو التحكّم المُطلق بمِياه النّيل الأزرق الذي يُشكِّل 80 بالمئة من مصادر مِياه نهر النيل، بإقامة أربعة سُدود لتخزين كميّات من المياه في خزّاناتها الضّخمة، وبِما يؤدّي في النّهاية إلى تخفيض الحصّة المِصريّة الكُبرى التي تزيد عن 55.5 مِليار مِتر مكعّب سَنويًّا، وتخفيض إنتاج السّد العالي من الكهرباء إلى ما يَقرُب النّصف.
الإثيوبيّون يقولون إنّ مِياه النّيل الأزرق تَنبُع جميعها من المُرتفعات والبُحيرات الإثيوبيّة، والمسألة سياديّة بالدّرجة الأُولى، وأيّ تدخّل مِصري هو انتهاكٌ لهذه المسألة لا يُمكن القُبول به، وجميع الاتّفاقات المُوقّعة بين البَلدين حول توزيع حِصص المياه كانت من طرفٍ واحد، أيّ الطّرف المِصري السوداني وأثناء زمن الاحتلال البريطاني.
اللّافت أنّ السيد عبد الله أحمدوه، رئيس وزراء السودان يُمسِك العصا من الوسط، ويُحاول أن يبقى على مسافةٍ واحدة من الطّرفين لأنّ حصّته من المِياه لن تتضرّر ويُريد الحِفاظ على صداقة إثيوبيا وكهربائها الرّخيصة.
السّلطات المِصريّة لا تُعارض مَلء خزّانات سد النّهضة بالمياه، ولكنّها تُعارض إتمامها دُفعةً واحدةً في غُضون سنتين موعد اكتِمال بناء سد النهضة، لأنّ هذا سيُؤدِّي إلى تخفيض حصّتها من المِياه لحواليّ 20 مِليار متر مكعّب دفعةً واحدةً وربّما أكثر، ولعدّة سنوات، ممّا يُؤدّي إلى تجويع أكثر من 5 ملايين فلّاح مِصري على الأقل.
آبي أحمد، الذي عَمِل على إفشال الوِساطة الأمريكيّة ووصول خمس اجتماعات لوزراء الري والخارجيّة إلى طريقٍ مسدود، اقترح، وفي إطار سياسة كسب الوقت، أن يقوم الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا ببدء وساطة جديدة بين مِصر وإثيوبيا لإيجاد حلٍّ للأزَمة، تحل محل الوِساطة الأمريكيّة الفاشِلة الأمر الذي تتّجه السّلطات المِصريّة إلى رفضه، والبحث عن خِياراتٍ أُخرى.
إثيوبيا “رشَت” جميع الدول الإفريقية المُحيطة بها من خلال عُروضٍ بإمدادات كهرباء نظيفة من إنتاج “طوربينات” سد النّهضة، وبأسعارٍ مُنخفضةٍ جدًّا، ونحن نتحدّث هُنا عن السودان الشّمالي والجنوبي والصومال وإريتريا وجيبوتي وكينيا وأوغندا، وحتى جنوب مِصر أيّ أنّها حشدت أكثر من 6 دول إفريقيّة إلى جانبها باتت أقرب إلى وجهة نظرها في أزمة السّد، بينما يقوم حُلفاء مِصر العرب بالاستثمار وتقديم القُروض للحُكومة الإثيوبيّة لدعم موقفها.
خِيارات مِصر تبدو محدودةً للأسف ويُمكن حصرها في النّقاط التالية:
أوّلًا: الرّهان أن تتدخل تتدخّل أمريكا وتضغط بقوّةٍ على إثيوبيا لتقديم تنازلات وإبداء مُرونة مع المطالب المِصريّة، وهذا مُستبعَد، لأنّ إثيوبيا تحظى بدعم اللّوبي اليهودي الإسرائيلي أوّلًا، ولأنّ ترامب يعتبر إثيوبيا مركز نُفوذ بلاده الأهم في القارّة الإفريقيّة باعتباره مَسيحيًّا مُتعصِّبًا ثانيًا، وانتهاء دور مِصر العربي والإقليمي ثالثًا.
الثّاني: اللّجوء إلى الاتّحاد الإفريقي ومجلس الأمن في لاهاي، والتّحكيم الدولي، وهذه مسألة مُعقّدة، علاوةً على كونها تتطلّب مُوافقة كُل أطراف النّزاع.
الثّالث: سحب القاهرة لمُوافقتها على الاتّفاق الإطاري حول السّد بين الدول الثّلاث، إثيوبيا ومِصر والسودان من خلال تصويت البرلمان، الأمر الذي سيدفع إثيوبيا إلى اتّخاذ القرار نفسه والانسِحاب.
الرّابع: الخِيار العسكري، أيّ نسف سد النّهضة، وتثوير الجماعات العِرقيّة والإسلاميّة الصوماليّة في داخل إثيوبيا والصومال (إقليم أوغادين)، ودعم إريتريا في خلاف الحُدود، أو ما تبقّى منه.
***
جميع هذه الخِيارات محفوفةٌ بالمخاطر بالنّسبة إلى الجانبين المِصري والإثيوبي، فقصف مِصر سد النّهضة المحمي بمنظومات صواريخ إسرائيليّة قد لا يُحقِّق أهدافه جميعًا، وربّما يُؤدِّي إلى ردٍّ بقصف السّد العالي في المُقابل، وربّما بصواريخٍ إسرائيليّة أو أمريكيّة، أيضًا، أو صفقة يجري فرضها على مِصر بإيصال مِياه النيل إلى الدولة العبريّة، ومن حصّتها السنويّة.
الجيش المِصري ليس مُهيّئًا في الوقت الراهن لخوض حربين، واحدة لحفظ الأمن القومي المِصري في الغرب اللّيبي، أو الأمن المائي في الجنوب الإثيوبي، وهُناك من يقول إنّه لم يَعُد مُؤهّلًا لخوض الحُروب بسبب انشغاله في الحرب في سيناء ضِد الإرهاب، وتفرّغ وحدات منه في إنجاز مشاريع التنمية الصناعيّة والخدماتيّة الداخليّة لإنقاذ الاقتصاد المِصري، ولكن هُناك وجهة نظر أُخرى تُؤكِّد جاهزيّته وتطوّر تسليحه واستعداده للمُواجهتين مُنفردتين أو مُجتمعتين واللُه أعلم.
مِصر تحتاج إلى قراراتٍ حاسمةٍ، فتخلِّي أمريكا عنها، وتفضيل إثيوبيا عليها، وإدارة ظهرها لأزمة سد النّهضة، والوقوف في الخندق الإسرائيلي يجب أن يدفع مِصر لإلقاء كُل ثُقلها في المُعسكر المُقابل لأمريكا وإسرائيل، واستعادة دوريها القِيادي والرّيادي كأحد الخِيارات، الأمر الذي سيقلب كُل المُعادلات في المِنطَقة.. فهل تفعل؟ لسنا من يملك الجواب؟