عبد الباري عطوان
عندما تضع الولايات المتحدة جميع قوّاتها في مِنطقة الشرق الأوسط في حال تأهُّبٍ قُصوى، وتُرسل تسع قاذفات بـ”52″ العِملاقة إلى قاعدة دييغو غارسيا في المُحيط الهندي، وتُشدّد الإجراءات الأمنيّة في قواعدها العسكريّة وسِفاراتها في العالم، ويفشل جميع وسطائها الذين أرسلتهم إلى طِهران استجداءً للتّهدئة، فإنّ هذه أجواء حرب، وليس أجواء ضربات خاطِفة يُمكن امتِصاص آثارها، بحيث تعود الأمور إلى وضعها السّابق لعمليّة الاغتيال التي استهدفت الفريق قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
في المُقابل نجزم أنّ المزاج الإيراني هو مِزاجُ حرب على أكثر من جبهة، فلو كانت القِيادة الإيرانيّة تُصغي للعُروض الأمريكيّة، ومن بينها توجيه ضربة أو ضربات انتقاميّة للسعوديّة والإمارات، أو حتّى قاعدة العيديد في قطر، لما تعمّدت أن يطوف نعش جُثمان الفقيد سليماني في مُختلف المُدن الإيرانيّة وحشد ملايين المُشيّعين لاستقباله في ظاهرةٍ لم يسبق لها مثيل في إيران والمِنطقة، حتى أثناء تشييع آية الله الخميني، قائد الثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة.
البرلمان العِراقي أصدر قراره بطرد القوّات الأمريكيّة من العِراق، وفصائل الحشد الشعبي عقدت اجتماعًا طارئًا ضم جميع قادتها، واتّخذا قرارًا بتوحيد صُفوفها وبَدء أعمال المُقاومة لتنفيذ هذا القرار في حالِ ماطلت، أو تلكّأت القيادة الأمريكيّة في تنفيذه فورًا.
***
من المُفارقة أنّ السيّد مقتدى الصدر الذي وقف دائمًا في الخندق المُواجه لهذه الفصائل، لم يكتفِ بتأييد هذه القرارات بل قرّر الانضمام إليها، وأعاد إحياء “جيش المهدي” التّابع له، وأمره بالانخراط في الحرب ضِد القوّات الأمريكيّة لإجبارها على الخُروج بشكلٍ مُهين ومُذِل، وتأسيس كتائب المُقاومة لم تعد المسألة مسألة رفع الحِصار، أو تخفيف العُقوبات، وإنّما باتت مسألة الثّأر لكرامة أمّة وشعب في مُواجهة طرف أمريكي داس عليها، ولهذا جرى إغلاق كُل الأبواب، وبطريقةٍ حاسمةٍ في وجه كُل الوسطاء، والعرب منهم، حُلفاء، أو أتباع أمريكا خاصّةً، الذين يُحاولون إنقاذ أنفسهم، قبل إنقاذ أمريكا من الرّد القادِم، بنزع فتيل الحرب.
نعم المُواجهة القادمة، ستُغيّر وجه الشرق الأوسط، وتُؤسّس لمُعادلات قوّة جديدة لن يكون للولايات المتحدة اليد العُليا فيها، ولا نعتقد أنّ الشعب الإيراني الذي خرج بالملايين لتوديع قائده القوي، ووليّ عهد ثورته، سيقبل بأنصاف الرّدود والحُلول، ولن يتردّد لحظةً في الوقوف خلف قوّات بلاده في مُواجهة أيّ عُدوان أمريكي.
الرئيس ترامب ارتكب خطيئة العُمر، ووقع في مصيدة التّحريض الإسرائيلي، ووضع مصالح بنيامين نِتنياهو وطُموحاته الانتخابيّة فوق مصالح شعبه وبلده، ولهذا سيدفع ثمنًا غاليًا، ولن يكون هُناك ما يُمكن أن تخسره إيران في المُقابل غير التّخلُّص من أغلال حِصارها.
لا نستبعد أن تخرج إيران من هذه المُواجهة قوّةً نوويّةً كُبرى، تمامًا مثلما فعلت كوريا الشماليّة بعد الحرب الكوريّة الدمويّة التي خاضتها أمريكا في الخمسينات من القرن الماضي، والصين من الحِصار الأمريكي الأوروبي الذي حرَمها مِقعدها في مجلس الأمن والمنظّمة الدوليُة، فالتّاريخ يُعيد نفسه، والأمثلة عديدة، فإيران أوقفت، مُحقّةً، جميع التزاماتها بالاتّفاق وبُنوده، وقرّرت العودة إلى تخصيب اليورانيوم دون أيّ قُيود، ولا بُد أنّها استعدّت لهذا التحوّل قبل أشهر إن لم يَكُن سنوات.
***
ترامب احتقر حُلفاءه الأوروبيّين، ولم يُبلّغهم، وهُم شركاؤه في حلف الناتو بجريمته، ونحن لا نتحدّث هُنا عن أتباعه العرب الذين لا يتعاطى معهم إلا بالابتزاز والحلب، ولن نُفاجأ إذا ما قادهم إلى الأزمات الاقتصاديّة والإفلاس التّام، فالبُورصات وأسواق المال الغربيّة والعربيّة تعيش حالةً من التّراجع مُنذ يوم الجمعة الماضي، وأسعار النفط ربّما تقفز إلى مِئة أو مِئتيّ دولار للبرميل، حيث تتزايد التوقّعات بإغلاق مضيق هرمز، وبات مُعظم المُستثمرين يتخلّصون من الدولار والأسهم، ويذهبون إلى الذهب الملاذ الأكثر أمنًا، في زمنِ الحُروب.
القواعد العسكريّة الأمريكيّة في العِراق والخليج ستكون أبرز الأهداف للانتقام الإيراني، وأذرع المُقاومة تستعد لتصفية الحِساب، والثّأر لمن استهانوا بها، وشُعوبها، وتطاولوا عليها مَذهبيًّا وسِياسيًّا، فزمن هيمنة المال يقترب من نهايته، وزمن صُعود الشّعوب ذات الإرث الحضاري الإنساني على وشكِ البَدء.. والأيّام بيننا.