عبد الباري عطوان
اعترف الرئيس رجب طيّب أردوغان بأنّ قوّات بلاده التي دخلت إلى مِنطَقة إدلب خسِرت “المِئات” من الجُنود من جرّاء هجَمات للجيش السوري، وهذا يعني أنّ جميع الأرقام “المُتواضِعة” التي وردت على لسان وزير الدّفاع والمُتحدّثين باسمه لم تَكُن دقيقةً على الإطلاق، وكان الهدف منها امتِصاص غضب الرأي العام التركيّ المُتصاعِد.
الرئيس أردوغان كشَف للصّحافيين الأتراك الذين كانوا على متن طائِرته في رحلة العودة إلى أنقرة بعد اختتام مُباحثات القمّة مع الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو، عن هذا الرّقم الكبير والمُفاجِئ، وحاول التّأكيد أنّ قوّاته تُواجه “النظام السوري” وليس روسيا في إدلب، وهذا أيضًا “غير دقيق” لأنّ 34 جُنديًّا تركيًّا قُتِلوا في ضرباتٍ لطائراتٍ حربيّةٍ روسيّةٍ في ريف إدلب، باعتِراف الروس أنفسهم الذين قالوا “إنّ هؤلاء الجُنود القتلى كانوا مُندسّين في أوساط مُقاتلين يَتبعون لفصائلٍ إرهابيّة”.
**
اتّفاق وقف إطلاق النّار الذي يُعتَبر الإنجاز الأبرز للمُباحثات التي استغرقت سِت ساعات بين الرئيسين التركيّ والروسيّ يظَل اتّفاقًا هشًّا، وقد لا يصمد طويلًا، مِثل الاتّفاقات السّابقة المُماثلة، لأنّه لم يَنُص مُطلقًا على إقامة مِنطقة آمنة، ولم يتطرّق إلى مَصير مِليون لاجِئ يتكدّسون أمام المعابر التركيّة الحُدوديّة مِثل باب الهوى وغيرها، والأهم من ذلك أنّ “الوثيقة المُشتركة” التي وقّعها الجانِبان أكّدت على عدّة نِقاط جوهريّة مُلزِمَة للجانب التركيّ، وردت مُعظَمها في اتّفاق سوتشي:
الأولى: الالتزام باستقلال “الجمهورية العربيّة السوريّة” ووحدة أراضيها، وهذا يعني إصرار الرئيس بوتين على هذه التّسمية الرسميّة وإلزام الرئيس التركي بها لأنّه يستخدم دائمًا تعبير “النّظام”.
الثانية: عزم البلدين (روسيا وتركيا) على مُكافحة الإرهاب، وكُل التّنظيمات الإرهابيّة التي اعتَرف بتصنيفها هذا مجلس الأمن الدوليّ، ولا استِثناء لجبهة النصرة.
الثّالثة: اتّفاق الجانبين على أنّ تهديد الأمن والبُنى التحتيّة لا يُمكِن تبريره تحت أيّ ذريعة من الذّرائع.
الرّابعة: لا حل عسكريًّا للنّزاع السوريّ الذي لا يُمكِن تسويته إلا نتيجةً لعمليّة سياسيّة يقودها ويُنفِّذها السوريّون أنفسهم بدَعمٍ من الأمم المتحدة، وهذه إشارةٌ واضحةٌ على أنّ عمليّة سوتشي هي المَرجعيّة الوحيدة.
الخامسة: وقف كُل أعمال القِتال على خطّ التّماس القائم في مِنطقة إدلب لخفض التّصعيد، وإنشاء ممر آمِن عرضه 6 كيلومترات، جنوبًا من الطّريق “إم 4” وبدء الدوريّات الروسيّة التركيّة المُشتَركة على طُول الطّريق المذكور، وهذا النّص يُؤكِّد أنّ طريق حلب دِمشق الدوليّ بات آمنًا وعودته للسّيادة الرسميّة السوريّة ليس مَوضِع نِقاش.
إلقاء نظرة سريعة على هذه النّقاط يُخرِج المرء بنَتيجةٍ مفادها، عدم وجود أيّ إشارة، تلميحًا أو تصريحًا، لانسِحاب قوّات الجيش العربي السوري من المُدن والقُرى والبلدات التي سيطَر عليها في ريف إدلب ولِما بعد نُقاط المُراقبة العسكريّة التركيّة في ريف إدلب، مِثلَما طالب الرئيس أردوغان وهدَّد بفرض هذه المطالب بالقوّة عبر حملة “درع الربيع”.
الاتّفاق جاء مخرجًا مُؤقّتًا للرئيس أردوغان، لأنّه لم يُقَدِّم أيّ حل للخِلافات التي أدّت إلى انفجار الوضع عسكريًّا، وخاصّةً مسألة مِليون نازح غادروا المناطق التي سيطر عليها الجيش السوري وعَسكروا أمام الحُدود التركيّة، ممّا يُوحِي أنّه قد لا يصمد طَويلًا في ظِل تصميم الجيش العربي السوري على استِعادة مدينة إدلب، والهُدوء الحالي قد يكون استراحة مُحارب، والتِقاط الأنفاس استعدادًا لجولةٍ جديدةٍ.
الرئيس بوتين لم يتنازل مُطلقًا عن طلبه الأساسيّ الذي كان جوهر اتّفاق سوتشي، وهو القَضاء على جميع الفصائل المُصنّفة إرهابيًّا، وألزم الرئيس أردوغان بالمُوافقة، بل والمُشاركة، في تصفية هذه الفصائل، وعلى رأسها فصيل هيئة تحرير الشام (النصرة) سابقًا.
النّقطة التي لم يلتفت اليها إلا القلائل في هذه الوثيقة أو الاتّفاق، عدم وجود أيّ إشارة فيها إلى قوّات “حزب الله” التي قاتلت بشراسةٍ إلى جانب الجيش العربي السوري في استِعادة مدينة سراقب وتأمين طريق “إم 5” والقضاء على سيطرة هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى عليه.
***
مصادر عليمة ومُقرَّبة من “الحزب” أكّدت أنّ قوّاته لَعِبَت دورًا محوريًا كبيرًا في المُواجهة الليليّة ضِد الجماعات المسلّحة في مدينة سراقب بحُكم خبرتها في حرب العِصابات، ولم تُحبَط عزيمتها وأُلحِق خسائر في صُفوفها، وكان لافتًا أنّه لم يتم التِقاط ونشر صورة واحدة أو “فيديو” لهذه القوّات، ولا أيّ من قيادييها، كما لم يصدر أيّ تصريح عن السيّد حسن نصرالله، أمين عام الحزب، ومقر قِيادته في الضاحية الجنوبيّة في بيروت، تمامًا مِثلما حدث أيّام حرب تمّوز عام 2006، فالعِبرة بالنّتائج الميدانيّة، وليس الظّهور الإعلامي.
الرئيس بوتين هاتف الرئيس بشار الأسد وأبلغه بالاتّفاق الوثيقة وبُنوده حسب بيانٍ رسميٍّ روسيٍّ، أكّد البيان نفسه أنّ الرئيس الأسد أعرب عن شُكره للرئيس بوتين “على الدّعم في مُكافحة التّنظيمات الإرهابيّة وعلى الجُهود المَبذولة الرّامية إلى ضَمان سيادة سورية ووحدة أراضيها”، وهي جُملةٌ لافتةٌ لمعانيها الاستراتيجيّة الثّابتة.
بعد كُل ما تقدّم لا نعتقد أنّ الرئيس أردوغان عاد من هذه القمّة وقد حقّق أيّ من مطالبه الرئيسيّة باستِثناء وقفٍ هشٍّ لإطلاق النّار.. وبقَيِت دار “أبو سفيان” على حالها انتِظارًا لجولةٍ قادمةٍ وأخيرةٍ، لاستِعادة الجيش العربي السوري لمدينة إدلب.. والأيّام بيننا.