عبد الباري عطوان
تركيا تُهدِّد، وقوّات الجيش العربي السوري تُواصِل استِعادتها لعشرات المُدن والقُرى والبلدات في ريف إدلب، وباتت على بُعد بِضعة كيلومترات من قلب المدينة التي تُسيطِر عليها هيئة تحرير الشام “النصرة” سابقًا، هذا هو تلخيصٌ مُوجزٌ لآخِر تطوّرات المشهد الميدانيّ السوري، ولكنّه لن يستمرّ على هذه الحالة، والمُفاجآت واردة.
هُناك عدّة احتمالات مُتوقّع حُدوثها في الأيّام القليلة المُقبلة، ربّما تُلقِي الأضواء على الخريطة الجديدة للصّراع:
الاحتمال الأوّل: اقتحام القوّات السوريّة مدينة إدلب بالطّريقة نفسها التي اقتحمت فيها مُدن خان شيخون ومعرّة النعمان، وأخيرًا سراقب، ورفع العلم السوريّ على صواريها.
الاحتمال الثاني: تصدّي القوّات التركيّة لتقدّم الجيش العربي السوري المدعوم روسيًّا، الأمر الذي سيُؤدّي إلى صِداماتٍ دمويّةٍ يكون المدنيّون في المدينة المُحاصَرة أبرز ضحاياها لأنّها ربّما تكون المعركة الأخيرة في مِنطقة شِمال غرب سورية، ولُجوء مِئات الآلاف إلى الأراضي التركيّة بعد كَسْر الحُدود بالقوّة.
الاحتمال الثالث: ترحيب الطّرفين السوريّ والتركيّ بعرض الوِساطة الإيراني، والجُلوس إلى مائدة المُفاوضات لتجنّب هذا الصّدام وحقن الدّماء.
الاحتمال الرابع: تدفّق مِئات الآلاف من المدنيين والمسلّحين إلى الأراضي التركيّة، وكَسرِهم الحواجز المسلّحة بالقوّة طلبًا للنّجاة، الأمر الذي سيُشكِّل مُعضلةً ديمغرافيّةً جديدةً، وأكثر خطورةً لتركيا والرئيس أردوغان شخصيًّا.
***
التّحشيدات العسكريّة التركيّة المُتزايِدة نحو مدينة إدلب التي بلغت حتّى الآن 1240 مَركَبة بين دبّابات وعربات مُدرّعة، و5000 جندي تَشِي بأنّ زيارة وفد عسكري روسي إلى انقرة قبل يومين لم تتمخّض عن أيّ نجاح، ومن غير المُستَبعد أن يطير الرئيس أردوغان إلى موسكو للقاء الرئيس فلاديمير بوتين بحثًا عن اتّفاقٍ، أو الخُروج من هذه الأزَمة المُتفاقِمة، في مُحاولةٍ أخيرةٍ لمنع المُواجهة العسكريّة، الأمر الذي يتطلّب تنازلات مُؤلِمة.
إعطاء الرئيس أردوغان مُهلةً للجيش العربي السوري للانسِحاب من المناطق التي يُسيطر عليها في ريف إدلب إلى ما خلف نُقاط المُراقبة العسكريّة التركيّة المُحاصَرة (12 نقطة) حتى نهاية شباط (فبراير) الحالي، يُوحِي بأنّه يبحث عن تسويةٍ سياسيّةٍ ويُحاول تجنّب المُواجهة، وما يُمكن أن يترتّب عليها من خسائرٍ بشريّةٍ وسياسيّةٍ وعسكريّةٍ، فلو كان يُريد المُواجهة فِعلًا لأقدَم فورًا عليها ودُون سابق إنذار، وهو يُدرك أنّ الدّعم الروسيّ للحليف السوريّ لا رجعة فيه، وأنّ الطّائرات الروسيّة هي التي تُسيطِر على الأجواء السوريّة، ولن تسمح لأيّ طائرة تركيّة باختِراقها.
حشد الرئيس أردوغان لهذا العدد الكبير من الدّروع والقوّات يُؤكّد حقيقةً هامّةً جدًّا، وهي يأسُه من الجماعات والفصائل السوريّة المسلّحة التي تُقاتل النظام تحت رايته، وعدم استِمرار اعتماده عليها، واتّخاذها سِتارًا، أمّا تدخّله العسكريّ بشكلٍ مُباشرٍ في إدلب سيُعرّضه لاتّهامٍ خطير بدعمِ هيئة تحرير الشام (النصرة) المُصنّفة إرهابيًّا ودعم استِمرار سيطرتها على إدلب.
الرئيس أردوغان يُواجه وحده تَحالفًا سُوريًّا إيرانيًّا مَدعومًا من “حزب الله” وفصائل أُخرى نجح في استِعادة حواليّ 80 بالمِئة من الأراضي السوريّة، ويملك خبرةً قِتاليّةً عاليةً جدًّا، والأخطر من ذلك أن الجيش التركيّ سيُحارب هذا التّحالف خارج أرضه، ودون وجود عقيدة، أو أسباب قتاليّة مُقنعة لشعبه أوّلًا قبل إقناع الدّول الأُخرى والمُجتمع الدولي عامّةً، وبُدون أيّ غِطاء دوليّ أو إقليميّ.
الجيش العربي السوري يُريد استعادة مدينة خارج سيطرة الدولة السوريّة، ولذلك فإنّ السّؤال الذي سيُواجِه الرئيس أردوغان، في حالِ اشتعال فتيل المُواجهة الكُبرى، عن الدّوافع القانونيّة والأخلاقيّة التي تدفعه للإقدام على هذه المُقامرة المَحفوفة بالمخاطِر، ومقتل المِئات، وربّما الآلاف من الجُنود الأتراك؟
ومِن هُنا، فإنّ الوِساطة الإيرانيّة التي برزت فجأةً ووردت على لسان السيّد علي أصغر حاجي، كبير مُساعدي وزير الخارجيّة أثناء اجتماعه مع غير بيدرسن، المبعوث الدوليّ إلى سورية، يوم أمس في طهران ربّما تُمَثِّل طوق النّجاة لجميع الأطراف، والتركيّ على وجه الخُصوص.
لا نَشُك مُطلقًا بقُدرات الجيش التركيّ الذي يُعتَبر ثاني أكبر الجُيوش وأقواها في حِلف النّاتو، ولكن لماذا تتورّط تركيا في مُواجهاتٍ عسكريّةٍ ضِد تحالف عسكريّ تقوده روسيا، ثاني أو ثالث أكبر قوّة عسكريّة في العالم وخارج أراضيها، ودون أيّ غِطاء شرعيّ دوليّ أو أخلاقيّ؟
هذه الوِساطة الإيرانيّة المدعومة، أو ربّما المُوحَى بها روسيًّا أو دوليًّا، ربّما تكون المخرج، لأنّها ستُوفِّر الغِطاء للِقاءات سوريّة تركيّة مُباشرة وعلنيّة على مُستوى العسكريين أوّلًا، والسياسيين ثانيًا، والتّمهيد للقمّة المُنتَظرة بين الرئيسين السوري والتركي ثالثًا، ووضع أُسس جديدة للعُلاقات بين البلدين من خِلال تفاهمات تحترم مصالحها المُشتركة، وأبرزها الحِفاظ على الأمن القوميّ لهما على أن تتكلّل هذه الوِساطة بتَجديدٍ، أو إحياء العمل باتّفاق أضنة المُوقّع عام 1998، والمَقبول من الجانبين، لأنّ البديل سيكون مُرعِبًا وهَدرًا للأرواح والدّماء من الجانبين في حربٍ قد تطول لأشهُرٍ أو سنوات.
لا يُخامِرنا أيّ شك بأنّ الجانبين السوريّ والروسيّ يُرحِّبان بهذه المُبادرة الإيرانيّة، ولكنّنا لم نسمع حتى الآن أيّ رد فِعل سلبي أو إيجابي من قِبَل الجانب التركيّ الأمر الذي يعني من وجهة نظرنا أنّ الباب ما زال مُوارِبًا، وأنّ احتِمالات النّجاح أكبر بكثير من احتِمالات الفشل بالتّالي.
***
لا بُد أنّ الرئيس أردوغان يُدرِك أنّ إسقاط الرئيس بشار الأسد وحُكمه لم يَعُد مُمكِنًا، وأنّ جميع شُركائه الذين انخَرطوا معه لتحقيق هذا الهدف قبل تِسع سنوات انفضّوا عنه وخذلوه وانقلبوا ضدّه، والأمريكان والعرب خاصّةً، ولا بُد من التّسليم بهذه الحقيقة، والوقائع على الأرض أيضًا.
هُناك عُشرون يومًا قبل انتِهاء مُدّة الإنذار التركيّ، نهاية هذا الشّهر، وربّما تكون كافيةً لبَدء هذه الوِساطة، والتوصّل إلى اتّفاقٍ يحقن الدّماء، ويُؤسّس لفصلٍ جديدٍ في عُلاقات الجارين السوريّ والتركيّ، وعلينا أن نُعيد التّذكير بأنّ المُفاوضات تجري بين الأعداء لإنهاء الحُروب، إذا توفّر الوسطاء المَقبولين للطّرفين، وما علينا إلا النّظر إلى التّحالف القويّ بين الألمان والفرنسيين، ألدّ الأعداء وأكثر الأصدقاء في الوقتِ الرّاهن بعد حربٍ عالميّة استمرّت أكثر من سبع سنوات، وسقَط خِلالها أكثر من 60 مِليون قتيل.
هُناك مَثلٌ إنكليزي يقول: WHERE THERE’S A WILL THERE’S A WAY، أيّ إذا وُجِدَت الإرادة يُمكِن إيجاد المخرج، ونأمل أن يكون هذا المثَل هو عُنوان المرحلة المُقبلة لعودة المِياه إلى مجاريها بين الدّولتين الجارين.. واللُه أعلم.