عبد الباري عطوان
كشَفت النّتائج الأوليّة للانتِخابات التشريعيّة الإيرانيّة عن فوز المُرشّحين المُرتَبِطين بالحرس الثوريّ بأغلبيّةٍ كُبرى الأمر الذي يعني للوهلةِ الأولى سيطرتهم على مُعظم مقاعد البرلمان الإيرانيّ (290 مِقعدًا)، ودعمٍ مفتوح للسيّد علي خامنئي، المُرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة، والجناح المتشدّد الذي يقوده والسّياسات التي يتبّناها.
هذه النّتائج تستمد أهميّتها من أمرين رئيسيّين:
الأوّل: أنّها جاءت بعد احتِجاجاتٍ شعبيّة في العديد من المُحافظات على تدهور مُستويات المعيشة نتيجةَ ارتِفاع الأسعار بسبب الحِصار الأمريكي.
الثّاني: أنها ستكون مُؤشِّرًا على تراجع شعبيّة الجناح المُعتدل الإصلاحي الذي يتزعّمه الرئيس حسن روحاني، وتكبّدهم خسارةً كُبرى ربّما تنعكس في الانتخابات الرئاسيّة العامّة التي ستَجري بعد عام تقريبًا.
الرئيس روحاني كشَف في الأيّام القليلة الماضية عن تقديم استِقالته ثلاث مرّات إلى السيّد خامنئي في الأشهر الأخيرة، ولكنّه رفضها وطالبه بالاستمرار في منصبه وإدارة دفّة البِلاد، مانِحًا له الثّقة رغم مُعارضة الجناح الرّاديكالي المتشدّد الذي كان يُطالب برحيله بعد فشل سِياساته “المُعتدلة”، وأبرزها انسِحاب الولايات المتحدة من الاتّفاق النووي الذي هندسه، وما ترتّب عليه من فرض عُقوبات أحدثت حالةً من الشّلل في الاقتِصاد الإيرانيّ، بما في ذلك فرض حظْر على الصّادرات النفطيّة الإيرانيّة.
***
ربّما يكون اغتِيال الولايات المتحدة الأمريكيّة للواء قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري بطائرةٍ مُسيّرة قُرب مطار بغداد الشّهر الماضي أحد الأسباب الرئيسيّة في فوز مرشّحي الجناح المتشدّد بالأغلبيّة في هذه الانتخابات، الأمر الذي سيُؤدّي إلى تصعيد التوتّر في العُلاقات مع الولايات المتحدة، والتّسريع بالإقدام على عمليّات انتقاميّة ضِد قوّاتها ومصالحها في المِنطقة في الأسابيع والأشهُر المُقبلة.
محور المُقاومة الذي تتزعّمه إيران تعّرض لضرباتٍ قويّة في الأشهر القليلة الماضية، أبرزها احتجاجات شعبيّة صاخبة في لبنان، وأُخرى في إيران، وثالثة ما زالت مستمرّةً في العِراق، والقاسم المُشترك فيها جميعًا المُطالبة بإنهاء النّفوذ الإيراني وقصقصة أذرع حُلفائه العسكريّة مِثل “حزب الله” في لبنان، و”الحشد الشعبي” في العِراق، ولكنّ تعيين رئيس وزراء جديد في لبنان (حسان دياب)، واختيار آخر (محمد توفيق علاوي) في العِراق، وانحِسار الاحتجاجات الشعبيّة في إيران، ربّما يُمَهِّد الطريق لعودةٍ قويّة لهذا المحور، واتّخاذ مواقف أكثر صلابةً وفاعليّةً في وجه التغوّل الأمريكيّ الإسرائيليّ في المِنطقة، والعِراق ولبنان وسورية والأراضي الفِلسطينيّة المحتلّة على وجه الخُصوص.
اعتراف المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكيّة (البنتاغون) للمرّة الثّالثة اليوم بأنّ عدد الجُنود الأمريكيين الذين أُصيبوا من جرّاء الهُجوم الصاروخيّ الذي استهدف قاعدة “عين الأسد” غرب العِراق، يُجَسِّد أوّل حلقات الثّأر الإيرانيّ لاغتيال سليماني، قد ارتفع إلى 110 مُصابين 77 منهم عادوا إلى الخِدمة، و35 جرى عِلاجهم في ألمانيا، 25 منهم تطلّبت إصابتهم نقلهم إلى مُستشفيات في الولايات المتحدة لخُطورة إصابتهم، وهذا سيرفع معنويات الحرس الثوري، وسيُؤكِّد كَذِب الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب الذي ادّعى أنّه لم يصب أيّ جنديّ أمريكيّ في هذا الهُجوم، مِثلما سيُؤكِّد أيضًا دقّة الصّواريخ الإيرانيّة في إصابة أهدافها.
ربّما يحتاج الحرس الثوريّ الإيرانيّ وحُلفائه إلى بِضعَة أشهر للتّعافي من صدمة اغتيال اللواء سليماني، أحد أبرز قادته، لإعادة ترتيب الأوضاع، وامتِصاص آثار هذه الصّدمة بالكامل، ووضع تفاصيل خريطته الانتقاميّة، ومن غير المُستَبعد، بل المُؤكّد، أن يكون استهداف القوّات والقواعد الأمريكيّة في العِراق، وتطبيق قرار البرلمان العِراقي بطردها الأولويّة المُطلَقة في هذا الإطار، خاصّةً بعد تعيين اللواء عبد العزيز المحمداوي نائبًا لرئيس الحشد الشعبي العِراقي خلفًا للحاج أبو مهدي المهندس الذي اغتيل في الضّربةِ نفسها التي استهدفت رفيق دربه سليماني.
***
نَفَس الإيرانيين طويل، وصبرهم أطول، ومن المُتوقّع أن تشهد المرحلة المُقبلة اتّخاذ قرارات، وتطبيق سِياسات “مُؤلمة” للولايات المتحدة من بينها الرّد على الحِصار بوقف كُل أشكال الالتزام ببُنود الاتّفاق النووي، ورفع مُستوى تخصيب اليورانيوم إلى مُعدّلاتٍ مُرتفعةٍ جدًّا، وإعطاء ضُوء أخضر للأذرع العسكريّة الحليفة بشن هجَمات انتقاميّة ضِد مصالح أمريكا وحُلفائها في المِنطقة، ولن يكون مُفاجئًا بالنّسبة إلينا إذا تبيّن أن الهُجوم بالصّواريخ المُجنّحة والطّائرات المُسيّرة الذي شنّته خلايا تابعة لتحالف “أنصار الله” الحوثي اليمني على مُنشآت أرامكو في مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر شِمال غرب المملكة العربيّة السعوديّة، يأتِي في هذا الإطار، ومُقدّمة لضَربات أُخرى ربّما تشمل إيلات أيضًا، فقد قطعت هذه الصّواريخ مِسافةً تَصِل إلى 1400 كم مُنذ انطِلاقها من صنعاء.
أن يُسيطِر الحرس الثوري على البرلمان الإيرانيّ بعد اكتِمال فرز صناديق الاقتراع يعني سيطرته على دوائر صُنع القرار بشقّيه التنفيذيّ والتشريعيّ في إيران، والحُصول على “تفويض” مفتوح من المُرشد الأعلى لقِيادة المرحلة المُقبلة، وكسْر الحِصار وإنهاء العُقوبات الأمريكيّة بكُل الطّرق والوسائل وفي أسرعِ وقتٍ مُمكنٍ سِلمًا أو حربًا.. والأيّام بيننا.