عبد الباري عطوان
انهارت الجولة الثّالثة من المُفاوضات التي جرَت في موسكو بين وفدَين أمنيين وعسكريين تركيّ وروسيّ حول الوضع المُتأزّم في إدلب، والسّبب تمسّك الجانب الروسيّ بكُل شُروطه في القضاء على الجماعات المسلّحة المُصنّفة على قائمة الإرهاب، وعودة المدينة وريفها بالكامل إلى السّيادة السوريّة تطبيقًا لاتّفاق سوتشي، ورفض الطّلب التركيّ بانسِحاب القوّات السوريّة إلى مواقعها السّابقة قبل استِعادة أكثر من 600 كيلومتر مربّع من ريف إدلب وعدّة مُدن وطُرق استراتيجيّة.
هذا الانهيار يعني أنّ الجيش العربي السوري سيُواصِل تقدّمه في ريف المدينة واستِعادة ما تبقّى من قُرى وبلدات ما زالت تحت سيطرة الجماعات المسلّحة، تمهيدًا لاقتِحامها بغطاءٍ جويّ روسيّ، الأمر الذي سيضع تركيا أمام خِيارين لا ثالث لهما، الأوّل القُبول بالأمر الواقع تجنّبًا لمُواجهةٍ عسكريّةٍ مع الروس والجيش السوري وحُلفائه، أو استمرار عمليّات التّحشيد للقوّات، والدّخول في صِدامٍ مع الجيش السوري في مُحاولةٍ لإخراجه من جميع المُدن والقُرى التي استعادها بِما في ذلك “طريق M5” الدّولي السّريع الذي يَربِط حلب بالعاصمة دِمشق.
***
الدكتور إبراهيم قالن، المتحدّث الرسميّ ومُستشار الرئيس رجب طيّب أردوغان السياسيّ، اعترف في مؤتمر صحافي عقده في أنقرة بفشل المُفاوضات في موسكو حول إدلب، وكشف أنّ وفد بلاده لم يقبل بالخريطة ولا الورقة المُقدّمين له من الجانب الروسي وأوضح “أنّ تغيير مواقع نُقاط المُراقبة العسكريّة التركيّة في إدلب أمر غير وارد، وأنّ بلاده ستُواصِل إرسال التّعزيزات والتّحصينات العسكريّة إلى المِنطقة بهدف حِماية إدلب والمدنيين فيها”، وشدّد على أنّ الجيش التركي “سيَرُد بأشَد الطّرق في حال تعرّض عناصره في إدلب لأيّ هُجوم”.
البيان الروسي في المُقابل أكّد على نُقطةٍ ربّما تكون هي التي أدّت إلى انهِيار المُفاوضات وعودة الوفد التركيّ إلى أنقرة “خاوي الوِفاض” نَنقُل هُنا حرفيًّا “إنّ تحقيق الأمن والاستقرار على المدى الطّويل في إدلب وأجزاء أخرى من سورية أمر ممكن فقط على أساس الالتزام بسيادة البِلاد (سورية) واستِقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها”.
هذه النّقطة مُهمّة لأنّها تؤكّد على سِيادة الدولة السوريّة في إدلب وريفها ممّا يعني الرّفض الحازم للطّلب الرئيسي للوفد التركيّ بانسِحاب الجيش العربي السوري من خان شيخون ومعرّة النعمان وسراقب، وكُل المُدن والبلدات الأُخرى في ريف إدلب، بِما في ذلك عودة سيطرة الجماعات المسلّحة، وهيئة تحرير الشام على وجه التحديد، على الطريقين السريعين الأول “ام 4” الذي يَربِط حلب باللاذقيّة، والثّاني “إم 5” الذي يربط الأخيرة بدِمشق وعمّان، وربّما لهذا السّبب تقدّم الجانب الروسي إلى نظيره التركي خريطة بمواقع مُراقبة تركيّة عسكريّة جديدة وكبديل للنّقاط التركيّة الـ 12 المُحاصَرة من الجيش السوري.
الرئيس أردوغان أعطى مُهلةً حتّى نهاية هذا الشهر شباط (فبراير) لانسِحاب الجيش السوري، وإلا سيَفرِض هذا الانسحاب بالقوّة، وأرسل أكثر من 80 دبّابة و150 عربة مُدرّعة، وعشرة آلاف جندي إلى إدلب لتنفيذ تهديداته هذه، ولكنّه نادرًا ما يُنفّذها، لأنّه يعلم جيّدًا أنّه لن يُواجِه الجيش السوري فقط وإنّما حُلفاءه الروس الذين يُسيطِرون على الأجواء في المِنطقة، ولهُم قوّات على الأرض أيضًا، إلا إذا تلقّى دعمًا عسكريّا مفتوحًا من الولايات المتحدة وحلف “النّاتو”، وهذا أمْرٌ مُستَبعدٌ في رأي الكثير من المُراقبين.
القيادة العسكريّة الروسيّة لن تسمح بأيّ هُجوم تركيّ يُغيّر الوقائع الأخيرة على الأرض، ومهما كانت الأعذار، والحُكومة السوريّة فتَحت ممرّات إنسانيّة آمِنَة للنّازحين من إدلب لسحب هذه الورقة من الجانب التركيّ كُلِّيًّا أو جُزئيًّا، وكُل المؤشّرات تُؤكّد أنّ احتِمالات المُواجهة أكبر بكثير من احتِمالات التّهدئة.
مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجيّة التركي، أعلن في مؤتمر صحافي اليوم أنّ الرئيسين بوتين وأردوغان قد يَلتَقِيان إذا لم تُسفِر مُحادثات موسكو حول إدلب عن أيّة نتيجة، ولكنّ الرئيس بوتين غير راغب فيما يبدو بهذا اللّقاء حتّى الآن، ورفض العديد من الطّلبات التركيّة في هذا الصّدد، لأنّه فقد ثِقته بالتِزام الرئيس التركيّ بأيّ اتّفاقات يتم التوصّل إليها مِثلَما حدث مع قرارات قمّة سوتشي في أيلول (سبتمبر) عام 2018.
***
ما أغضب الرئيس بوتين أكثر زيارة “المُناكَفَة” التي قام بها الرئيس أردوغان إلى أوكرانيا، وهتافه بأعلى صوته “المجد لأوكرانيا”، ودعمه لعودة شِبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا للسّيادة الأوكرانيّة، ولِسان حاله، أيّ بوتين، يُردِّد المثَل الذي يقول “ما هكذا تُورَد الإبل يا سيّد أردوغان”، وليس هذه هي الطّريقة المُثلَى للتّعامل بين الحُلفاء”.
الأيّام القليلة المُقبلة ستكون حاسمةً في المشهد السوريّ، ومدينة إدلب على وجه الخُصوص، وأيّ خطوة مُتهوّرة من الجانب التركيّ قد تُشعِل فتيل مُواجهة إقليميّة، وربّما دوليّة، خاصّةً بعد دُخول الولايات المتحدة على خطّ الأزمة للاصطِياد في الماء العَكِر وتوريط تركيا أردوغان في مِصيَدة حرب إدلب الاستنزافيّة، واستِنجاد الرئيس أردوغان بحِلف النّاتو الذي اكتشف عُضويّة بلاده فيه فجأةً.
مرّةً أُخرى نقول إنّها جولة جديدة من عضِّ الأصابع بين بوتين وحليفه “السّابق” أردوغان، ولا نعتقد أنّ الرئيس الروسيّ سيَصرُخ أوّلًا.. واللُه أعلم.