عبد الباري عطوان
تعرّض بنيامين نِتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيليّ لصفعةٍ قويّةٍ على يد حركة “الجهاد الإسلامي” عندما فشِلَت خُططه باغتيال أيّ من قِيادييها، سواءً في دِمشق أو قطاع غزّة، في الغارات الصاروخيّة التي شنّتها قوّات جيشه فجر اليوم، وجاء الرّد على هذه الغارات مُزلزلًا عندما انهالت الصّواريخ مِثل المطر على المُستوطنات شِمال القِطاع، ممّا أدّى إلى إغلاق جميع المدارس، والمحلّات التجاريّة، وإيقاف القِطارات، وإحداث شللٍ شِبه كامل في مُعظم الجنوب المُحتَل.
نِتنياهو الذي يقف على أبواب انتخابات نيابيّة مصيريّة مطلع الشّهر المُقبِل، أراد أن يُعزِّز فُرص فوزه فيها عبر تحقيق إنجازين:
الأوّل: اغتيال القائد زياد النخالة، زعيم الجهاد الإسلامي، أو نائبه أكرم العجوري، أو الاثنين معًا، ليظهر بمظهر البطل أمام ناخِبيه في دولة الاحتِلال.
الثّاني: تصعيد عمليّات التّطبيع مع دول خليجيّة للتّباهي بهذا الاختِراق، والإيحاء بأنّ إسرائيل باتت دولةً طبيعيّةً مُعترفٌ بها كحليفٍ في مِنطقة الشرق الأوسط، أم مُعظم دولها.
***
من المُؤسف، بل والمُؤلم، أنّه بينما فَشِل في تحقيق الهدف الأوّل نتيجة يقَظة حركة “الجهاد الإسلامي” واحتِياطاتها الأمنيّة، وتصدّي الدّفاعات الصاروخيّة السوريّة بكفاءةٍ عاليةٍ للعُدوان الإسرائيليّ، نجح نِتنياهو في تحقيق الهدف الثّاني ليس لمهارته، وإنّما لخُنوع الأطراف الخليجيّة للتّطبيع (باستِثناء الكويت)، فقد زار فريق رياضيّ إسرائيليّ دبي وشارك في مُسابقةٍ فيها، بينما أكّدت تقارير إخباريّة وصول يوسي كوهين، قائد جهاز “الموساد” الإسرائيليّ إلى الدوحة على رأسِ وفدٍ أمنيّ، وأجرى مُباحثات مع نظيره القطريّ محمد بن أحمد المسند (من أخوال الأمير تميم)، تردّد أنّها دارت حول ترتيب هُدنة طويلة الأمد بين حركة “حماس” ودولة الاحتِلال في قِطاع غزّة، ولا ننسى في هذه العُجالة لِقاء نِتنياهو مع عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني في أوغندا، وزِيارته إلى مسقط أواخِر العام الماضي.
حركة “الجهاد الإسلامي” التي لم تنخرط في أيّ مُفاوضات مُباشرة، أو غير مُباشرة، مع دولة الاحتِلال، ورفضت المُشاركة في أيّ انتخابات تحت الاحتلال أو مؤسّسات مُنبَثِقة عن اتّفاق أوسلو، باتت هي الوحيدة في الأيّام الأخيرة التي تتصدّى للهجَمات الإسرائيليّة، وتثأر لشُهدائها فورًا، وقبل أن تجف دماؤهم الطّاهرة.
قصف المُستوطنات الإسرائيليّة بالصّواريخ فجر اليوم جاء انتقامًا لاستِشهاد أحد مُقاتِلي حركة الجِهاد (محمد علي الناعم) الذي كان مع زميلٍ آخر يُحاول زرع عبوة مُتفجّرة في طريق دبّابات الاحتِلال على الحُدود شِمال مدينة خان يونس، وشاهد العالم بأسْرِه، وعبر شريط فيديو، كيف مثّلت الجرّافة الإسرائيليّة بجُثمانه وسرَقته للاحتِفاظ به أمَلًا باستِبداله في أيّ عمليّة تبادل مُستقبليه.
رسالة حركة “الجهاد الإسلامي” من خِلال إطلاق زخّات الصّواريخ هذه، تقول بأنّها ستَرُد وتثأر لأيّ شهيد فِلسطيني يَسقُط بنِيران الاحتِلال، وقبل أن يَجُفّ دماؤه، وهذا يُشكِّل في حدّ ذاته تطوّرًا جديدًا في مسيرة المُقاومةـ وربّما يكون أبرز عناوين مرحلة ما بعد “صفقة القرن”.
لا نَستغرِب هذه السّياسة القديمة المُتجدّدة من القائد زياد النخالة الذي نعرفه جيّدًا، والتقيناه أكثر من مرّةٍ، فهو رجل وهَب حياته للشّهادة من أجلِ فِلسطين، مِثلما قال لنا في آخِر مُكالمةٍ هاتفيّة جرَت بيننا في أعقاب اغتِيال الشّهيد بهاء أبو العطا، وأكّد أنّ صواريخ المُقاومة ستَصِل في المُواجهة المُقبلة إلى تل أبيب ومطارها، وهذا الرّجل الذي يعتبر السيّد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله” قُدوته، إذا قال فعل، أو هكذا نعتقد.
***
أخطر ما في مُحاولة نِتنياهو اغتِيال القائد النخالة بالقصف الصاروخيّ لأحد مقرّات “الجِهاد الإسلاميّ” في دِمشق، أنّها ربّما تُؤدِّي إلى نقل عمليّات التنظيم الثأريّة إلى خارج فِلسطين المحتلّة، وهُناك نِقاشٌ دائرٌ حاليًّا في هذا الصّدد، وإذا حدث هذا التطوّر، ونحنُ لا نستبعده كُلِّيًّا، فإنّه سيُوجِّه ضربةً قاتلةً إلى نِتنياهو والكيان المُحتل، بالنّظر إلى حرب الاغتِيالات واستِهداف المصالح الإسرائيليّة في أكثر من مكانٍ في العالم في فترتيّ السّبعينات والثّمانيات من القرنِ الماضي، وليس هُناك ما يُمكن أن تخسره حركة الجِهاد، ولن يُضيرها وصفها بالإرهاب، مِثلَما يُجادِل الجناح الأكثر تَشدُّدًا فيها، فهي تتربّع حاليًّا على قمّة قوائِمه الإسرائيليّة والأمريكيّة.
أخطر ما يُميِّز حركة “الجهاد الإسلامي” أنّها غير طامِعَة بالسّلطة والمناصب والرّواتب، ولا أموال الدول المانِحَة، ولا تُؤمِن بالهُدن مع الاحتِلال، وهذا ما لا يفهمه نِتنياهو، أو أراد تجاهله، في ذروة هَوَسِه بالفوز في الانتخابات الإسرائيليّة الثّالثة في أقل من ستّة أشهر، بعد فَشَلِه في الاثنتين السّابقتين، وقد تكون هزيمته على يد صاروخ يُطلِقه “الجهاد الإسلامي” من وسَط رُكام الغارات الإسرائيليّة الأخيرة على قِطاع غزّة.. واللُه أعلم.