هدى الحسيني
هناك أفعال يقوم بها أحياناً فرد واحد فتكون تداعياتها على كامل أفراد العائلة التي ينتمي إليها ذلك الفرد. وهناك فعل يقوم به فاعل سياسي على رأس هرم السلطة فيتحمل تبعاته السلبية كل الشعب الذي يسوسه. كما يحصل أحياناً أن يخوض زعيم سياسي مغامرة متهورة فيجني على كامل الشعوب العربية والإسلامية تماماً كما جنى علينا صدام حسين بغزوه للكويت وتوريط بلداننا منذ تلك المغامرة في سلسلة من المآزق إلى اليوم.
بناءً على ما تقدم فإن ما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤخراً من قتل للحق الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود واضحة وعاصمتها القدس الشرقية، إنما يعد مأزقاً لكل العالم وليس لفلسطين أو للبلدان العربية فقط كما قد يظهر للوهلة الأولى. طبعاً معظم القراءات التي تناولت خطة ترمب لما يصفه السلام تكاد تُجمع على وقوع النظام السياسي العربي في مأزق وأيضاً انهيار الحلم الفلسطيني وتراجعه إلى نقطة الصفر.
أكيد أن هذه القراءات لم تجانب الصواب ولكنّها قراءات ظلت منقوصة من منطلق أننا نرى أن ما سُميت «صفقة القرن» هي بمثابة المأزق للولايات المتحدة ولأوروبا وللجميع، أي إنّها صفقة خاسرة، وكل العالم سيتكبّد خساراتها متعددة الأشكال مستقبلاً وعلى المدى القصير والمتوسط والطويل والمدى المفتوح.
إنّ إعلان الرئيس ترمب في مؤتمر صحافي حضره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن خطته للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وذلك بالموافقة على استمرار السيطرة الإسرائيلية على معظم الضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وضم الكتل الاستيطانية الضخمة في الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل وبقاء مدينة القدس موحدة وتحت السيادة الإسرائيلية... هو إعلان رغم كل سلبياته فإنه واضح جداً، والوضوح هنا يساعدنا في الذهاب بعيداً في التفسير والتأويل من دون فقدان البوصلة.
تتضمن خطة «السلام» التي يراد بها حرباً مفتوحة على امتداد المستقبل، كمية هائلة من القهر السياسي والحضاري. فهل كان القهر يوماً ضمانة للسلام؟
إن مؤشرات الخطورة في الخطة المعلنة تعلن عن مأزق العالم اليوم، وكيف أن هذا العالم يحتكم إلى منطق القوة وينسف بشكل كامل منطق الحق. ومثل هذا الواقع المغرق في الواقعية وقوانين موازين القوى يسيء على نحو لم يسبق له مثيل مقادير الكيمياء بين الحق والقوة. فلا عجب في أن يهيمن منطق القوة، ولكن أن يصبح كل المنطق محض قوة دون الحد الأدنى من الحق، فهذا تغيير نوعي غير مسبوق في العقل الأقوى المسيّر للعالم. ذلك أن القبول باستمرار السيطرة الإسرائيلية على معظم الضفة الغربية التي احتلتها عام 1967 يمثل في حد ذاته إذعاناً لقوانين موازين القوى وتنازلاً من أجل السلام وموافقة على حل الدولتين بما أنه يضمن للفلسطينيين دولة. ولكن ها هي القوى الضعيفة في العالم اليوم تتلقى الدرس: طريق التنازل مفتوحة على التنازل الكامل لا على السلام أو الحد الأدنى منه.
من هذا المنطلق فإن ترمب عملياً لم يقدم مقترحاً للسلام، وفي الحقيقة هناك مقدمات تعود منذ حملته الانتخابية تؤكد أن خطة السلام لا يمكن أن تكون في عهده، وأن كل ما سيقوم به هو تأجيل السلام وإغراق المنطقة في توترات لا أحد يستطيع التكهن بتمظهراتها.
كما أن ردود الفعل الأوروبية التي جمعت بين الترحيب والحذر والتذكير بضرورة تطبيق قرارات الشرعيّة الدوليّة جاءت لتؤكد أن العالم يسير على قدم واحدة لأن الخطة متمردة على الشرعية الدولية ومع ذلك تم الترحيب بها. حتى أوروبا في مأزق، ولعل الإرهاب أكبر مأزق يواجه عالم اليوم، ولا يخفى أي دور للقضية الفلسطينية في ظهور آفة الإرهاب.
إذن خطة الرئيس ترمب للسلام لا أحد يمكن حصر تداعياتها، ولكن حالياً على الأقل فقد قدمت هذه الخطة المبنية على القهر والقوة دون حق كل ما تحتاج إليه الجماعات التكفيرية الإرهابية من مسوغات للاستمرار في أفعالها الشيطانية، أي إن هذه الخطة صبّت الزيت بسخاء على النار ليشتعل أكثر بدل مقاومة الأسباب وسحب البساط من أرباب المشاريع الظلامية.
من جهة أخرى، وهذا أخطر التداعيات الراهنة، فإن النخب التي آمنت بالسلام واحتكمت إلى منطق الاعتدال والواقعية من أجل ضمان الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني قد تعرضت، بسبب «صفقة القرن» وما تضمنته من بنود، للخذلان، كأن ترمب يريد أن يقدم مكافأة لما يسمى محور الممانعة.
طبعاً هناك من يعتقد أن هذه الخطة هي نتاج محور الممانعة، وهيعقاب جماعي للنظام العربي بسبب تهديدات محور الممانعة ومواقفه، ولكن ما هكذا تُدار السياسة الدولية وليس بهذه الطريقة نؤسس للاعتدال والسلام والحق ولو كان في الحدود الدنيا.
بيت القصيد: «صفقة القرن» ليست دليل خسارة للقضية الفلسطينية والنظام العربي، بل هي صفقة الخسارة للجميع، والتاريخ سيُظهر ذلك كما سبق أن أظهر مراراً.