هدى الحسيني
كشف الصراع الحالي في غزة عن نطاق العسكرة الضخم الذي تحولت إليه حركة حماس في السنوات الأخيرة، إن كان بالنسبة إلى آلاف الصواريخ متعددة المدى أو عشرات الأنفاق التي حفرتها سرا استعدادا ليوم المعركة.
يتراوح ثمن كل صاروخ ما بين مئات وآلاف الدولارات، فالصواريخ المستوردة مثل «فجر- 5» الإيرانية تكلف آلاف الدولارات للواحد، بينما الصواريخ التي تصنعها حماس يكلف الواحد منها مئات الدولارات، كما أن تهريب الأسلحة ونقلها إلى غزة يكلف ملايين الدولارات سنويا، في حين أن حفر الأنفاق يستغرق وقتا ويتطلب موارد واسعة تكلف الملايين من الدولارات، إضافة إلى مئات الأطنان من الخرسانة والحديد، كل هذا يطرح أسئلة عن قدرة حماس على تمويل هذا الكم وهي التي تقول إن لديها ضائقة مالية ضخمة. حماس معزولة سياسيا، ومع تغيير النظام في مصر، هي أيضا معزولة «جسديا». ومراجعة وثيقة ودقيقة تظهر أن أهم مصادر التمويل لحماس، لا سيما جناحها العسكري (كتائب عز الدين القسام)، تحملته حكومة رجب طيب إردوغان رئيس الوزراء التركي، هذا بالإضافة إلى المساعدات المالية من قطر.
اقتصاد غزة الذي تديره حماس، ليس بالاقتصاد المعروف، فهو لا ينتج ومن ثم لا يصدر السلع، بل على العكس اعتمد أخيرا على تدفق الأموال من السلطة الفلسطينية ومنظمات الإغاثة الدولية، كما أن حماس تفرض ضرائب، كما كانت تفعل مثلا على البضائع المهربة عبر الأنفاق من مصر.
بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك ووصول «الإخوان المسلمين» بقيادة محمد مرسي إلى السلطة، استفادت حماس من دعم القاهرة ومن محسوبيتها على الحكم هناك. كما نمت أوثق العلاقات مع شركائها «الإخوان» في تركيا وقطر، وبردت علاقاتها مع إيران و«حزب الله» في لبنان حتى نسبة معينة. لكن، بعد إزالة حكم مرسي و«الإخوان» في مصر، وفوز المشير عبد الفتاح السيسي، اتخذت القاهرة موقفا متشددا من حماس، لا سيما بعدما كثرت العمليات الإرهابية ضد الجيش المصري وقوى الأمن في سيناء وتهديد محمد البلتاجي (من زعماء «الإخوان» المصريين) بأن عمليات الإرهاب تتوقف إذا ما عاد مرسي إلى الحكم. أغلقت مصر معبر رفح بشكل كامل تقريبا، دمرت الأنفاق، وحرمت قطاع غزة من السلع المهربة والأموال النقدية التي كانت تتدفق من صحراء سيناء. كانت النتائج على حماس مدمرة: عزلة سياسية شبه كاملة، وأزمة اقتصادية ضخمة، مما حملها على اللجوء إلى جمع الأموال في دول مثل تركيا وقطر.
في السنتين الأخيرتين، عانت حماس انخفاضا كبيرا في جمع التبرعات لها، والسبب الرئيس أن جمع التبرعات من الجهات المانحة انخفض، وانخفضت معها مساعدات إيران المالية. الدعم الاقتصادي من قطر وتركيا لا يصل إلى ما تسلمته الحركة من إيران، لكن لم يكن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، في موقف يسمح له بأن يختار، بعدما أدارت حماس ظهرها لنظام بشار الأسد في سوريا، ثم إغلاق مكاتبها في دمشق. وخلف أبواب مغلقة، في بدايات عام 2012 وفي ذروة اعتقاد إردوغان أن النظام السوري على وشك الانهيار، بعدما أمنت تركيا وصول كل فرق الجهاديين إلى سوريا - وعد إردوغان قادة حماس الذين جاءوا إلى تركيا بأنه سيقدم لهم مساعدات سرية وواسعة بقيمة 250 مليون دولار.
رأى إردوغان في وضع حماس ولجوئها إليه، الفرصة بأن يحل محل إيران، ويصبح الراعي الرئيس للحركة الإسلامية الفلسطينية، وحامل علم آيديولوجية «الإخوان المسلمين» في العالم. في واقع الأمر، نقلت أنقرة سرا إلى غزة ما بين 2012 وبداية 2013 مبلغ 60 مليون يورو كان هذا المبلغ محمولا إلى الجناح العسكري لحماس.
بعد التأخير في نقل ما تبقى من المال الموعود، زار وفد من حماس، بقيادة مشعل، تركيا في أواخر عام 2013، ونجح الوفد، الذي ضم المسؤول المالي بحماس، في تأمين المساعدات المالية كاملة. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) 2013 ومع المساعدات الإنسانية والمدنية التي أعلن إردوغان أنها سترسل إلى غزة، جرى نقل الملايين من اليورو إلى حماس.
المساعدات التركية لحماس تجري على مستويين: علني وسري. العلني، مساعدات يعلن عنها وتنقل إلى غزة تحت مراقبة وإعلام، وتشمل تمويل المشاريع الإنسانية والمدنية كالمدارس والمستشفيات والمساجد، والأدوية والأغذية. هذه المساعدات الإنسانية تتحول أحيانا مساعدات عسكرية في حالة المواد مثل الخرسانة التي تهدف إلى تشييد المباني فتستخدم في بناء الأنفاق. أما المساعدات السرية كالتي شملت نقل عدة ملايين من اليورو نقدا في الشهر الأخير من العام الماضي، فيجري تحميلها مباشرة إلى قادة حماس في تركيا أو إلى الذين يصلون أنقرة من مقر الحركة المؤقت في الدوحة حيث يقيم مشعل الآن. ممثلون سريون من مالية حماس ينقلون الأموال إلى غزة والضفة الغربية عبر سعاة وصرافين. هذه المبالغ التي تنقل إلى حماس عبر قنوات غير رسمية، لا تصل إلى السكان المدنيين في غزة إنما لبناء البنية التحتية التشغيلية في الضفة الغربية، ولتقوية الجناح العسكري للحركة في غزة، ولشق وبناء الأنفاق وشراء ونقل كميات كبيرة من الأسلحة.
تُستخدَم تركيا مكان لقاء واجتماع لكل الداعمين الماليين لحماس الذين يتوجهون من كل أنحاء العالم العربي، وكذلك مكانا تتمركز فيه العناصر العسكرية، كما أن مسؤولين كبارا من حماس يتولون توجيه البنى التحتية التشغيلية في الضفة الغربية، يقيمون بتركيا، إضافة إلى مراكز تدريب عسكرية لمقاتلي حماس.
مواقف إردوغان منذ بداية جولة المعارك الأخيرة، حيث قرر دعم حماس عبر الهجوم على مصر، أثارت غضب القاهرة، هذه المواقف أكدت وضع البلدين على مسار الصراع المكشوف. تحولت تركيا بالنسبة إلى حماس، تماما كإيران بالنسبة إلى «حزب الله» في لبنان، وإن كانت الأخيرة تلتزم الحذر ولا تتهجم على القيادة السياسية الرسمية في البلد، ولا حتى على المعارضة، وتكتفي كل فترة بالمطالبة بدبلوماسيين إيرانيين أربعة اختطفوا أثناء الحرب في لبنان عندما كان الكل يخطف الكل.
المعارضة في تركيا ومصر ترفض آيديولوجيا «الإخوان المسلمين»، وتمسك إردوغان (عضو فاعل في «الإخوان») بدعم حماس، من المرجح أن يثير غضب حلفاء تركيا الغربيين. حماس مصنفة في عدة دول غربية، بما فيها الولايات المتحدة، منظمة إرهابية، ومن المؤكد أن الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي (تركيا عضو) قد تتساءل عن الدعم التركي الواضح لمنظمة لجأت إلى العمليات الإرهابية ضد من لا يتفق معها من المنظمات الفلسطينية، ولم تحاول يوما أن تحمي مدنيي غزة من الغارات الإسرائيلية. لم تطالب حماس بفك الحصار جديا عندما كانت أنفاق التهريب «شغالة» على طول الحدود المصرية، حيث وفرت للحركة المئات من القادة الأثرياء، وعندما جرى تدمير تلك الأنفاق تنبه قادة حماس إلى الحصار!
هناك تهديد آخر قد لا يكون موضع دراسة الآن عند الحكومة التركية؛ فتركيا قد تدرَج على القائمة السوداء للجنة العمل المعنية بالإجراءات المالية (FATF)، وهي الهيئة الدولية التي تحدد المعايير الدولية في مكافحة تمويل الإرهاب. هذه القائمة تضم الآن دولتين: إيران وكوريا الشمالية، وقد وضعت هذه الهيئة تركيا عام 2007 على لائحتها الرمادية. في بلاد من المتوقع، وفقا لصندوق النقد الدولي، أن يتباطأ نموها الاقتصادي من 3.8 في المائة إلى 3.5 في المائة في السنة المالية المقبلة، وتعاني سيل اللاجئين من الحرب الأهلية في سوريا - فإن كل هذه المخاطر يجب أن تؤخذ على محمل الجد.
إردوغان قد يتجاهل كل هذه الأمور، هو يرى دعمه حماس علامة تميزه عن المرشحين الآخرين من المعارضة والأكراد وتؤمن له أغلبية الأصوات قبيل الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل. منذ عام 2009 عندما ترك إردوغان قاعة المناقشات في قمة دافوس غاضبا من شيمعون بيريس (الرئيس الإسرائيلي آنذاك)، تحولت السياسة الخارجية التركية إلى رافعة رئيسة له في الساحة الداخلية التركية. أزمة حماس تساعده الآن في سياسته الداخلية، وصور أشلاء أطفال غزة تعطيه رونقا يحتاجه بعد فشل مشروعه في امتطاء حصان «الربيع العربي»، الذي جمح به عندما حاول ركوبه في مصر وكذلك في ليبيا، ولم يستطع أن يوصل رسنه إلى بقية الدول العربية، والحصان الآن يكبو.
إردوغان يريد إعطاء تركيا التي يديرها صورة الدولة القوية التي تتمسك بمبادئها على الساحة الدولية وساحة «الإخوان».
يقال إن الاثنين من حماس- الخليل اللذين خططا لخطف الشبان الإسرائيليين الثلاثة وقتلهم، أقدما على هذا العمل لأنهما كانا يريدان نسف المصالحة الوطنية بين السلطة وحماس، وهما يقيمان بتركيا!