هدى الحسيني
شهر رمضان المبارك بالنسبة إلى «داعش» هو شهر الجهاد والاستشهاد وشهر القرارات الحاسمة. بدأ «داعش» شهر رمضان بإعلان دولته الإسلامية، ومن دون شك فإنه يخطط لعملية عسكرية كبيرة في هذا الشهر، إذ تبين من خططه حتى الآن أن لديه استراتيجيين عسكريين.
منذ منتصف الشهر الماضي حدثت مفاجأتان في المنطقة؛ الأولى تأكيد «داعش» لمفهومه أن الشهر الفضيل هو شهر الجهاد والاستشهاد، إذ إن أكبر المعارك في التاريخ الإسلامي - العربي وقعت في شهر رمضان. لذلك، يجب أخذ أبو بكر البغدادي الذي يدعي أنه قرشي (هو من سامراء) بشكل جدي، كما يجب أخذ إعلانه لدولته الإسلامية بجدية أيضا، لأنها إذا تركت من دون ردود فعل حاسمة ستشكل خطرا على كل الشرق الأوسط.
ما حققه «داعش» في الموصل قبل أسبوعين يثبت، حسبما قال أحد العسكريين الغربيين، أن لدى أبو بكر البغدادي تفكيرا استراتيجيا هو والقادة الذين معه. ويتوقع محدثي أن يفكر البغدادي في تحقيق خرق عسكري جديد في رمضان «قد يكون في أي مكان»، لذلك برأيه على الدول المعنية أن تكون واعية، وألا يتكرر فشل المواجهة الذي وقع في الموصل فأدى بـ«داعش» لجرف أراض شاسعة.. «لأننا إذا كنا نشعر الآن بأننا في مأزق، سنكون لاحقا في مأزق أعمق».
يمكن لـ«داعش» أن يزعزع استقرار بغداد، إذ إن لديه انتحاريين جاهزين يتحركون مثل أشخاص آليين، والكل يذكر زمن «القاعدة» قبل الصحوة حيث كانت السيارات المفخخة تنفجر كل يوم وتحصد عشرات الضحايا من العراقيين، ومن يدري ربما يتحرك «داعش» في الأردن، لذلك يجب عدم الاستخفاف به.
قد يكون إعلان الدولة الإسلامية أجرأ خطوة أقدم عليها، لكنها قد تكون أيضا نقطة التحول بحيث يهدر «داعش» كل المكاسب والانتصارات التي حققها. في بيان إعلان الدولة قال «داعش» إنه يستوفي جميع المتطلبات القانونية للخلافة، وبالتالي على جميع الجماعات الجهادية القائمة، لا بل على جميع المسلمين في كل أنحاء العالم، تأدية قسم الولاء للخليفة الجديد إبراهيم (في سياق أن البغدادي لديه النسب المطلوب للحصول على اللقب)!
رد الفعل على هذا الإعلان من الحركات الجهادية قد يؤدي لتصلب معاداتها لـ«داعش»، وفي الوقت نفسه يجذب البعض الذي سيرى في «داعش» النجم الصاعد جهاديا، وبدأت أصوات التأييد تصل من بعض «قاعدة» بلاد المغرب ومن «قاعدة» اليمن، لكن من المرجح أن المسلمين في جميع أنحاء العالم سيكون ردهم سلبيا على هذا الإعلان. ربما النتائج على المدى الطويل غير واضحة الآن، فالكثير يتوقف على ما سيحدث لاحقا في العراق.
حقق «داعش» الانتصارات في العراق كجزء من تحالفه الواسع مع المظالم السنية ضد حكومة نوري المالكي. مَن تحالف مع «داعش» استفاد لتحريك الورقة العراقية التي كانت راكدة وتستهين بحقوقه، لكن إعلان الدولة الإسلامية أرسل إشارة واضحة إلى كل حلفاء «داعش» في العراق وسوريا بأنهم سيكونون خاضعين له. انتزاع السلطة قد يفكك التحالف الذي سمح لـ«داعش» بالاستيلاء على الأراضي.
إذا تم صد «داعش»، حيث يجري الحديث عن حكومة تحالف في العراق، بعد إبعاد المالكي وتحالفات عراقية جديدة، فإن الكل سيدرك أن أبو بكر البغدادي كان كل همه اغتنام الخلافة بين يديه، وقد وصلت بالفعل، ثم خسرها بعدما أعماه حبه للسلطة.
هذا كله يعتمد على مدى شعور الدول العربية بخطر «داعش»، ثم إن معالجة مظالم فئة من العراقيين لا تكون بتكبيد الفئات الأخرى كمًّا من المظالم. وارتكابات نوري المالكي لا يحلها أن تسود ارتكابات البغدادي، الذي إذا قويت شوكة دولته فإنها ستلغي دولا كثيرة وتحول الشعوب العربية إلى لاجئين.
في سياق آخر، ما برز بعد «غزوة» الموصل كان التحالف الكردي – التركي، وهذا قد يغير وجه العراق أكثر من أي شيء آخر. ففي وقت غيرت فيه «الغزوة» وجه العراق العربي، فإن التحالف المستحيل بين رجب طيب إردوغان رئيس الوزراء التركي، ومسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان، هو المفاجأة الثانية. مصالح الطرفين غيرت الجزء العربي في العراق.
الأكراد متوجهون الآن إلى دولتهم، معا هم والأتراك، وليس في مواجهة مع أنقرة، هذا ما كان في السابق بعيدا حتى عن الخيال.
يمكن القول إن الأكراد أنقذوا كركوك الغنية بالنفط من «براثن داعش»، بعدها قال بارزاني إنه لا تخلي كرديا عن كركوك.
لمدة عشر سنوات حاول الأكراد الإبقاء على العراق موحدا، بعد الموصل وكركوك صاروا متأكدين من أن العراق بحاجة إلى مشهد سياسي جديد، بعدما أثبتت سياسة المالكي فشلها لمدة 8 سنوات. قبل أيام من «غزوة» الموصل حذر الأكراد حكومة المالكي من المتوقع حدوثه، فكان جواب بغداد: لا تتدخلوا.. كل شيء تحت السيطرة. بعد الموصل لن يتدخلوا عسكريا كما أنهم يرفضون التورط في حرب مذهبية بالعراق. الأولوية لديهم أن تحمي قوات البيشمركة كردستان بكل طوائفها ومذاهبها ومن لجأ إليها.
من ناحيتهم يبدو أن الأتراك يريدون دولة كردستان كدولة فاصلة بين تركيا والفوضى. ومقابل هذا سيحصلون على المشاريع والنفط والغاز، خصوصا أن أغلب المشاريع الاقتصادية في كردستان، منذ أن كانت ملاذا آمنا من الغارات الجوية في عهد صدام حسين، يقف وراءها رجال أعمال أتراك.
لقد تخلى الأتراك عما كانوا يطالبون به سابقا كركوك والموصل. وكان بارزاني طمأنهم إلى أن أكراد تركيا بنظره أتراك، إنما أبلغهم بطريقة غير مباشرة أن عليهم عدم الاعتماد عليه. هذا عكس موقفه من أكراد سوريا وأكراد إيران. هو استغل حاجة إردوغان إلى النفط والدولة الفاصلة وإلى من يقاتل العرب بدلا منه.
بارزاني سيكون وفيا بوعده لأن تركيا تمثل شريان الحياة لكردستان، ثم إن لديه من الثروة في دولته ما يكفي لمائة عام، ويساعده بالتالي على إقامة دولة كردية تضم لاحقا وتدريجيا أكراد سوريا وإيران.
السيطرة الكردية على كركوك لن تعود إلى الوراء. حتى لو تم تشكيل حكومة ائتلاف، ستظل السلطة المركزية في بغداد في وضع لا يسمح لها بإعادة عقارب ساعة كركوك إلى الوراء. ربما على العكس سيكون العراق وتركيا بحاجة إلى الأكراد لإبعاد «داعش». هذا يجعل أكراد العراق في وضع مريح للتفاوض على شروط أكثر ملاءمة بالنسبة إلى حدود دولتهم وعائدات النفط من بغداد.
لكن أي مستقبل لدولة كردستان بعد التطورات الأخيرة؟ الأكراد بمعظمهم يريدون الاستقلال التام. لكن القيادات الكردية بدأت تطرق باب الكونفيدرالية، بعدما رفضت الدولة العراقية، عندما كانت قادرة، الفيدرالية بحيث تشرك مناطق الحكم الذاتي في الأساسيات الضرورية للحفاظ على العراق موحدا.
بغض النظر عن الشكل النهائي الذي سيحدد وضع كردستان العراق، فإنه نتيجة للاضطرابات الحالية سيبرز كيان كردي أقوى وأكثر تأثيرا، وإذا شاءت السلطات المركزية في عواصم الدول المعنية أم أبت، فإن هذا الكيان سيكون له قريبا تأثير على النقاش الدائر حول مستقبل سوريا، ووضع الأكراد فيها، وأيضا مع اقتراب بدء فصل جديد من العلاقات بين تركيا وأكرادها فإن حكومة واثقة في أربيل، مدعومة بقوة من أنقرة، ستقوّي عزيمة أكراد ديار بكر في مطالبتهم بحكم ذاتي، مبدئيا داخل الحدود الحالية لتركيا.
وتجدر الملاحظة إلى أنه إذا لم يؤخذ إعلان البغدادي لدولته بجدية، فهو كان أعلن إلغاء حدود سايكس - بيكو بين العراق وسوريا، لكن بلاد الشام بنظره تضم أيضا لبنان، والأردن، وقبرص وجنوب تركيا. تركيزه الآن على العراق والهدف إيجاد وضع فيه يهدد جيران العراق. هذا سيدفع بإيران إلى التركيز على حماية حكم الشيعة في العراق، وتضطر إلى التدخل بعد سحب الميليشيات العراقية التي دربها قاسم سليماني من سوريا إلى بغداد (عصائب أهل الحق). قد ينتج عن تحركات «داعش» أمر إيجابي واحد وهو توحد المعارضة السورية، وإنهاء التأثير الإيراني في العراق. وقد يدفع ذلك إلى موقف إقليمي واضح وحاسم لتجنب حرب مذهبية طاحنة، خصوصا أنه وبالتأكيد لن يكون هناك تدخل عسكري أميركي في العراق.