إذا ما كانت الاضطرابات السياسية التي تشهدها العاصمة العراقية بغداد في الوقت الحالي تحمل أي رسائل٬ فهي أن السواد الأعظم من الشعب العراقي قد نفد صبره من حالة الوضع الراهن.
ولا تقتصر مظالم الشعب العراقي على جانب واحد من جوانب الحياة في البلاد٬ سواء كانت صعوبات البقاء على قيد الحياة يوًما بيوم٬ أو حقيقة أن الحكومة قد سقطت رهينة الكونفدرالية السياسية للزمرة الفاسدة٬ الذين حولوا الفساد من علة اجتماعية وسياسية إلى أسلوب للحياة. إن الغارة الدونكيشوتية التي شنها أنصار التيار الصدري على المنطقة الخضراء في بغداد٬ وهي المساحة الصغيرة من الأرض في قلب العاصمة٬ حيث تقع الوزارات والمكاتب الحكومية وغيرها من الهيئات٬ قبل بضعة أيام٬ تظهر أن السؤال الآن لم يعد ما إذا كانت الحكومة الحالية تقوم بأعمالها على أكمل وجه من عدمه٬ ولكن ما إذا كان في العراق بالأساس حكومة قادرة على العمل والفعل على الإطلاق.
وإذا حكمنا على الرجل من برنامجه المعلن٬ فإن رئيس الوزراء حيدر العبادي هو رجل حسن النية ويحاول قيادة بلاده بعيًدا عن فوضى ما بعد الحرب٬ وصوب قدًرا من الاستقرار الذي تدعمه المؤسسات الديمقراطية في البلاد. والعبادي هو واحد من عدد قليل من كبار السياسيين العراقيين الذين لم ألتق بهم من قبل٬ ولا يمكنني تقييم قدراته القيادية على المستوى الشخصي.
وما يهم على أي حال٬ وبصرف النظر عن قدرات الرجل الشخصية٬ هو أنه يفتقر إلى قاعدة الدعم والتأييد المطلوبة لإعادة توجيه دفة سفينة الحكومة العراقية.
وعلى المستوى الطائفي٬ أي من داخل الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها رئيس الوزراء العراقي٬ فإن العبادي يبدو وكأنه محتجز لقاء فدية من جانب شبكة من الأحزاب والجماعات٬ وبعض منها مسلح٬ وممول وخاضع لسيطرة إيران. وحتى داخل حزب الدعوة٬ الحزب السياسي الذي ينتمي إليه الرجل أيًضا٬ فإنه معرض لمؤامرات شريرة وخطيرة جًدا من قبل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وإبراهيم الجعفري٬ الطامعين حتى الآن في مقعده ومنصبه الرفيع.
وبالنسبة لأنصار مقتدى الصدر٬ فلقد ساروا على خطى الاستراتيجية التي يتزعمها رجلهم الأول٬ فلقد أيد في بادئ الأمر محاولات العبادي في إصلاح النظام والحكومة٬ ثم حاول بعد ذلك أن يضفي على حركته مزيًدا من التوابل من خلال إثارة نعرات القومية العربية المستهلكة٬ في حين حافظ على اتصالاته غير السرية مع طهران.
وبين الأكراد٬ وهم الفصيل الموالي لإيران٬ والذين لا يزالون تحت قيادة جلال طالباني٬ هناك دعم أكيد لحكومة العبادي على أمل إضعاف قاعدة التأييد الشعبية للرجل٬ وبالتالي إجباره على مزيد من التنازلات لمطالبهم التي لا تنتهي. أما الأكراد الموالون لمسعود بارزاني٬ وهم الأقرب في الوقت الحالي من أنقرة عن إيران٬ كانوا يفضلون العبادي في أول الأمر٬ وعّدوه أقل خضوًعا لسيطرة إيران ونفوذها. ومع ذلك٬ فإنهم٬ كذلك٬ لا ينظرون لمستقبل العبادي بعين التفضيل ذاتها.
وتنقسم الطائفة السنية على نفسها بالتوازي والتساوي. فهناك قطاع منهم يتعاطف وبشدة مع الجماعات المتطرفة٬ بما في ذلك تنظيم داعش الإرهابي٬ الذي يحاول بكل جدية إسقاط الحكومة العراقية٬ أو على أدنى تقدير بسط السيطرة على أوسع مساحة ممكنة من الأراضي العراقية من دون العمل على تقاسم الآيديولوجيا الدموية التي يعتنقونها. وهناك قطاع آخر من السنة لا يزالون يحدوهم الأمل في التوصل إلى اتفاق ما لتقاسم السلطة تحت إشراف الولايات المتحدة. كما أن هناك قطاًعا ثالًثا يطاردون الأمل اليائس من الحصول على دعم العرب وتأييدهم لمطالبهم المشروعة.
وتعقدت الأمور إثر تصادم الطموحات ما بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية في إيران التي تلعب لعبة التنافس الإمبريالي. وفي هذه اللعبة٬ فإن الولايات المتحدة هي الدولة الإمبريالية العتيدة والعنيدة التي تملك الوسائل اللازمة كافة لفرض أجندتها الخاصة٬ غير أنها تفتقر إلى الإرادة الضرورية لتنفيذ ذلك. والمثل الأعلى لواشنطن حالًيا هو العثور على رجل قوي٬ وجديد٬ وليس ضعيًفا٬ في بغداد لتساعده على صياغة آلية العمل الجديدة.
ولم تبدأ المحاولة خلال الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس أوباما. وبحث الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش هو الآخر عن رجل قوي٬ وأعتقد أنه عثر عليه في شخص نوري المالكي في الوقت الذي كان السياسي العراقي المخضرم يشدو بأناشيد إيران الآثمة.
وكان خطأ أوباما اعتماد الاستراتيجية ذاتها من دون ذلك النوع من النفوذ٬ الذي كان يتعهده بوش في العراق وقتئذ. فعندما دفع بوش بالمالكي إلى واجهة الأحداث كان للولايات المتحدة أكثر من 170 ألف مقاتل في العراق. والآن يحاول أوباما إعادة إنتاج الفيلم نفسه٬ وهذه المرة باستخدام العبادي في دور البطولة٬ ولكن في وجود أقل من 5 آلاف مقاتل أميركي فقط على أرض العراق.
ومن جانبها٬ تلعب إيران دورها الإمبريالي بكل حماسة٬ على الرغم من وضعها الاقتصادي الذي لا تحسد عليه٬ وهي على استعداد الآن لصب المزيد من الموارد كلما لزم الأمر.
وهدف طهران المعروفُيضاد هدف واشنطن في العراق٬ حيث إن الملالي لا يرغبون في وجود حكومة قوية في بغداد٬ فضلاً عن وجود رجل قوي لأميركا هناك. وذلك هو السبب وراء أن طهران تفعل كل ما في وسعها للحيلولة دون بناء العبادي لصورته الشخصية٬ بوصفه القائد ذا الفعل والتأثير في الداخل العراقي. تصور الآلة الإعلامية الخمينية العبادي بأنه سياسي غر ساذج٬ ومبتدئ جاهل٬ كان يمكن أن يلقى الفشل الذريع منذ زمن طويل لولا التدخل الإيراني لصالحه مرات تلو المرات. وفي حقيقة الأمر٬ تفاخر الرئيس الإيراني حسن روحاني غير مرة بأنه لولا إيران لكان الإرهابيون يديرون دفة الحكم في بغداد ودمشق الآن٬ حتى أنهم يرفضون مجرد منح العبادي أي دور أو فضل في طرد «داعش» من أجزاء شاسعة من الأراضي العراقية٬ بما في ذلك تكريت٬ وكركوك٬ وأمرلي.
ففي كل مرة تتمكن القوات العراقية من طرد مقاتلي «داعش» من إحدى المدن أو البلدات العراقية٬ يقوم الجنرال الشيعي قاسم سليماني٬ قائد فيلق القدس٬ بنشر سلسلة من الصور الذاتية في مختلف الأماكن والأوضاع التي يزعم من خلالها أنه قد عاد لتوه من الجبهة الأمامية بعدما حقق النصر العظيم. ويكمن الخوف الاستراتيجي لدى طهران في أن العراق٬ قد يعاود الظهور نموذًجا للحكومة التعددية الحديثة التي يمكنها استمالة الكثير من الإيرانيين.
هناك أعداد قليلة من السجناء السياسيين في العراق اليوم٬ وأقل بكثير من إيران. ويتمتع المجتمع العراقي بدرجة أفضل من حرية وسائل الإعلام عن إيران اليوم. وفي العراق هناك حرية عامة لعمل مختلف الأحزاب السياسية بمختلف التيارات٬ الملكي منها والماركسي. ولكن في إيران هناك حظر عام على تأسيس الأحزاب السياسية حتى يومنا هذا.
والعراق أيًضا هو المركز الذي يضم السلطة الدينية الشيعية الرئيسية٬ وهو يتمتع بقدر من الحريات الدينية التي لا يمكن تصورها بحال في الجمهورية الإسلامية.
كما أن العراق يتمتع بموارد طبيعية هائلة تمكنه وبسهولة من بناء اقتصاد حديث وفاعل٬ وحتى في الوقت الراهن يعد الاقتصاد العراقي أفضل كثيًرا من الوضع الاقتصادي المزري الذي تشهده إيران. ففي العام الماضي حقق الاقتصاد العراقي نمًوا بأقل من 4 نقاط مئوية٬ بينما سجل الاقتصاد الإيراني نمًوا سلبًيا عن الفترة نفسها. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تحقق إيران نمًوا بمقدار نقطة مئوية واحدة خلال هذا العام٬ مقارنة بـ3.7 نقطة مئوية بالنسبة للعراق.
لا تملك الولايات المتحدة أو إيران المقدرة على فرض كامل أجندتها السياسية على العراق في أي وقت قريب. أجل٬ هناك شعبية نسبية تتمتع بها الولايات المتحدة في العراق اليوم٬ ولكن٬ وبسبب سياسات أوباما المائعة٬ فقدت الولايات المتحدة الكثير من ثقة الشعب العراقي.
وحتى مع تغيير الإدارة الأميركية في واشنطن٬ فسيستغرق الأمر وقًتا طويلاً في إصلاح الأضرار التي خلفتها الإدارة الحالية على صورة الولايات المتحدة ومكانتها لدى المستويين الشعبي والرسمي في العراق.
ولا تحظى الجمهورية الإسلامية بشعبية واسعة٬ وبشكل واضح٬ في الداخل العراقي٬ بما في ذلك٬ أو ربما على الأخص٬ بين جموع الطائفة الشيعية التي تشعر باستياء كبير إثر معاملتها على أنها أداة للاستعمار الجديد من الإمبراطورية الإيرانية الذاتية التي تجسدها صور «السيلفي» التي يتيه بها ذلك الجنرال المهووس بالأزياء العسكرية وألوانها المختلفة.
من المؤكد أن يمر العراق بالكثير من الأوقات العسيرة والأيام الصعبة. ولكن المثل يقول: إن ما لا يتسبب في قتلك يزيد من قوتك. وذلك السبب في اعتقادي أنه من السابق لأوانه جدا أن نكتب الآن نعي العراق الجديد.