بقلم - أمير طاهري
حتى قبل أن يؤدي جو بايدن القسم رئيساً للولايات المتحدة، كثرت التكهنات حول المسار الذي ربما تتخذه السياسة الخارجية الأميركية في ظل قيادته. وتوقع بعض المراقبين أنه سيعود ببساطة إلى المسار الذي سبق أن جربه واتبعه الرئيس باراك أوباما، بينما ذكرنا آخرون بأن بايدن لطالما تمرس طوال حياته في مجال السياسة الخارجية، وبالتالي فإنه لن يرضى باتباع نهج أوباما في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية القائم على المضي في إرجاء حسم القضايا والقيادة من الخلف، ومثلما أشارت هيلاري كلينتون من قبل؛ إلقاء خطبة في كل مرة تظهر فيها أزمة.
ومع ذلك، ثمة أمر يتفق عليه الجميع بأن بايدن سيبذل قصارى جهده لإظهار عزمه على إقصاء الولايات المتحدة عن المسار الذي انتهجه سلفه الرئيس دونالد ترمب.
وفي إشارة إلى هذا النهج، حرص بايدن على استخدام عبارة «أميركا عادت من جديد! والدبلوماسية عادت من جديد!» من أجل تعزيز ادعائه بأن الولايات المتحدة في ظل رئاسة ترمب انحرفت عن الأسلوب الأميركي المميز في إنجاز الأمور وتخلت عن الدبلوماسية لصالح المواجهة والعنف.
ومع هذا، فإن هذه العبارة ربما تبدو لطيفة بوصفها شعاراً، ولاقت ترحيباً من وسائل الإعلام على أنها تمثل تحولاً بعيداً عن المفردات الحادة التي اعتاد ترمب استخدامها. من جهتها، رأت «نيويورك تايمز» الخطاب مؤشراً على أن الولايات المتحدة تستعيد دورها القيادي من جديد.
ورغم ذلك، فإن الحقيقة تظل أنه في إطار الخطاب السياسي، تبقى النغمة والتوجه مجرد زخارف خارجية، بينما الأهمية الحقيقية ترتبط بالجوهر؛ الذي يظل في حالة بايدن غامضاً.
في خطابه، قال بايدن: «عادت أميركا»، لكنه لم يحدد أيّ أميركا يقصدها بحديثه. منذ ثلاثة عقود، أرسلت الولايات المتحدة نصف مليون جندي لإسقاط طاغية في بلد بعيد لحماية حلفائها الإقليميين وإنقاذ أمة سقطت ضحية لنظام فاشي جديد. ومنذ عقد مضى، كانت الولايات المتحدة ترسم «خطوطاً حمراء» لطاغية دموي آخر قبل أن تمنحه «الضوء الأخضر» لقتل شعبه بالأسلحة الكيماوية.
كانت هناك أميركا بذلت أقصى جهدها لمعاقبة إرهابيين معمّمين وفّروا الملاذ لتنظيم «القاعدة»، وبعد ذلك ظهرت أميركا أخرى وقّعت اتفاق سلام مع الإرهابيين المعممين أنفسهم. ورأينا أميركا تهرّب النقود للملالي الذين يحتجزون رهائن، وأميركا أخرى تسحق عظام هؤلاء الملالي تحت وطأة ضغوط هائلة تمارسها عليهم.
وبالنظر إلى ما سبق، يصعب على المرء القول أيّ أميركا على وجه التحديد يرغب بايدن في إعادتها.
وبالمثل، يبدو شعار «عادت الدبلوماسية» فارغاً من أي معنى حقيقي، فالدبلوماسية وسيلة للوصول إلى أهداف معينة. وعليه، فإنه إذا كانت الأهداف المرجوة ذاتها خاطئة وغير عادلة، فإن السعي وراء إنجازها عبر الدبلوماسية سيكون أشبه بتمهيد الطريق نحو الجحيم.
وفي خطابه، عدد بايدن أهداف سياسته الخارجية؛ التي لم تُصَغ في صورتها النهائية بعد، على النحو التالي: «الدفاع عن الحرية، وتعزيز الفرص، ودعم الحقوق العالمية، واحترام سيادة القانون، ومعاملة كل شخص على نحو يحفظ كرامته».
ومع هذا، من الصعب أن نجد رئيساً أميركياً واحداً كان ليعترض على هذه القائمة. وتكمن الأهمية الحقيقية هنا في السبيل الذي سيتخذه بايدن لإنجاز هذه الأهداف؛ الأمر الذي يتطلب سياسات واضحة تتعامل مع العالم الواقعي.
من جانبهم، أشاد بعض المعلقين ببايدن لـ«موقفه الصارم» في مواجهة فلاديمير بوتين والقيادة الشيوعية الصينية. واستشهدوا بالعبارة التالية التي قالها بايدن بوصفها دليلاً على ذلك: «أوضحت للرئيس بوتين على نحو مختلف تماماً عمّا اعتاده سلفي أن أيام وقوف الولايات المتحدة صامتة في مواجهة التصرفات العدائية من جانب روسيا - مثل التدخل في انتخاباتنا والهجمات السايبرية وتسميم مواطنيها - قد ولّت».
في الواقع، من غير الواضح ماهية هذا النحو «المختلف للغاية»، لكن بالنظر إلى أن بايدن يهلل بعودة الدبلوماسية، فلا يمكن أن يكون ذلك النحو المشار إليه غير دبلوماسي. على أي حال، فإن جميع المشكلات التي يتهم بوتين بافتعالها حدثت عندما كانت إدارة أوباما - بايدن تتولى شؤون البلاد.
ويتحدث بايدن عن «التصرفات العدائية من جانب روسيا»، والتي من المفترض أنها تعني غزو وضم القرم، وضم جنوب أوسيتيا رسمياً لروسيا، وتحويل أبخازيا إلى قاعدة عسكرية روسية، والتوسع في دونيتسك، والتدخل العسكري في سوريا، وممارسة ضغوط على جمهوريات البلطيق... وجميعها أمور حدثت في عهد إدارة أوباما - بايدن.
أيضاً؛ يعود اتهام «التدخل في انتخاباتنا» إلى عام 2016 عندما اتهمت هيلاري كلينتون موسكو بتزوير الانتخابات لمعاونة دونالد ترمب على الوصول للبيت الأبيض. إلا إنه في واقع الأمر تولى فريق أوباما - بايدن تنظيم تلك الانتخابات. ومن المفترض أن هذه المرة لم يحدث «تدخل روسي» بالنظر إلى خسارة ترمب الانتخابات، أو لو كان مثل هذا التدخل قد وقع، فإنه يعني أن بوتين رغب في فوز بايدن.
إضافة لذلك، نسي بايدن أنه في ظل رئاسة سلفه الذي امتنع عن ذكر اسمه، طُرد أكبر عدد على الإطلاق من الدبلوماسيين الروس من الولايات المتحدة. أما تسميم المواطنين الروس، فقد بدأ في واقع الأمر عندما كان جورج دبليو. بوش رئيساً للبلاد، واستمر في ظل إدارة أوباما - بايدن، وأخيراً في عهد إدارة ترمب.
وتبعاً لتقارير صادرة عن «مكتب التحقيقات الفيدرالي»، فإن الهجمات السايبرية الروسية ضد أهداف داخل الولايات المتحدة بدأت هي الأخرى في عهد إدارة أوباما - بايدن.
في فيلم «الوطني» للمخرج إرنست لوبيتش، يحذر مستشار لقيصر روسيا، رئيسه بعدم «السماح لشبح سلفك بأن يجلس على العرش، مرتدياً قناع وجهك». وسيكون من الأفضل لو أن بايدن حرر نفسه من أشباح أوباما وترمب.
من ناحية أخرى، يمكن وصف تعليقات بايدن الأولى حول الصين والحرب في اليمن بـ«الغريبة» على أدنى تقدير، فقد وصف الصين بأنها «منافستنا الأشد خطورة» وحذر من «طموحاتها المتنامية لمنافسة الولايات المتحدة»، لكنه لم يقل لماذا هذا ربما يشكل تهديداً.
على مدار تاريخها، كانت الولايات المتحدة واعية تماماً بكيفية تمييز المنافس عن العدو. في الواقع، لطالما كان الترحيب بالتحدي وقبول المنافسة واحترام المنافس جزءاً من الثقافة السياسية الأميركية. ولطالما سعت الولايات المتحدة بجد نحو الفوز أمام المنافسين، بجانب أنها كانت تعي كذلك كيف يمكن إلحاق الهزيمة بعدو ما.
والمسألة المحورية هنا ما إذا كان بايدن ينظر إلى الصين بوصفها عدواً أم مجرد منافس يخرق بعض القواعد.
أما فيما يخص اليمن، فقد نسي بايدن أن هذه الحرب بدأت في عهد إدارة أوباما بدعم كامل من الولايات المتحدة وموافقة من الأمم المتحدة بهدف استعادة الحكومة الشرعية للبلاد. ولم يوضح بايدن ما إذا كان ملتزماً بذلك الهدف، وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فماذا ينوي أن يفعل حياله.
الحقيقة إن إصدار إعلان وتعيين منسق يعدّان من الخطوات لتشتيت الانتباه وإخفاء عدم الاستعداد لفعل أي شيء. ومثلما قال الفيلسوف السويسري الشاب ريمي برالات، فإنه «عندما تنوي عدم فعل أي شيء، فلتفعل هذا على نحو أنيق!».
أيضاً، اتسمت تعليقات بايدن عن بورما بالغرابة. الحقيقة أن بورما قصة حول كيف نجح عسكريون في بيع مجموعة من السلع لإدارة أوباما - بايدن لكسب الوقت تمهيداً لعودة وحشية.
والتساؤل الآن: هل سينجح بايدن في التخلص من هذه الأشباح وصياغة سياسة خارجية تتجاوز شعارات ترمي لكسب رضا التيار الرئيسي من وسائل الإعلام؟