بعد مرور أكثر من 17 عاًما على وفاة آية الله روح الله الخميني، الرجل الذي قاد الملالي إلى السلطة في إيران، فإنه لا يزال محور الأحاديث والنقاشات خلال حقبة ما بعد الثورة التي قسمت صفوف الإيرانيين لدرجة دفعت البعض للتحريض على العنف ضد البعض الآخر.
الأسبوع الماضي، وصل النقاش حول العقد الذي قضاه الخميني في السلطة إلى مستوى جديد من الاحتدام مع نشر تسجيل سري يضم تعليقات أطلقها أقرب مساعدي الخميني إليه، الذي وقع عليه الاختيار ليخلفه، الراحل آية الله حسين علي منتظري، عام 1988.
وجاء نشر الشريط من جانب أحمد، نجل منتظري الباقي على قيد الحياة، يرافقه ادعاء بأنه جرى تسجيله في أغسطس (آب) 1988 أثناء اجتماع بين والده ووفد من الملالي جرى إرسالهم لطلب الإذن بتنفيذ الآلاف من عمليات الإعدام السريعة في غضون يومين.
وقد اتسم هذا الاجتماع بخلفية دراماتيكية، حيث كان الخميني قد قبل لتوه اتفاق وقف إطلاق نار مع العراق، لينهي حرًبا استمرت ثماني سنوات، من دون إنجاز هدفه المعلن المتمثل في الذهاب إلى «القدس عبر بغداد».
وكانت الحرب قد حصدت أرواح أكثر من مليون شخص، ثلثاهم تقريًبا من الإيرانيين من دون أن يتمكن «جيش الإمام» من التقدم ولو لمسافة بوصة واحدة.
في الواقع، عندما أعلن الخميني استسلامه غير المشروط في أغسطس 1988، كانت قوات صدام حسين تحتل جزًءا من الأراضي الإيرانية في زاينال كوش Zaynal – Kosh التي استعادتها إيران لاحًقا عندما أسقط الأميركيون الطاغية العراقي.
بمعنى آخر، فإن الخميني انتهى إلى الفشل بعد حربه المطولة التي تسببت في دمار خمسة أقاليم إيرانية، ووقوع آلاف الإيرانيين، غالبيتهم من المراهقين الإيرانيين، في الأسر وتداعي اقتصاد البلاد. ولا بد وأن آية الله قد جفاه النوم ليالي طويلة بحًثا عن سبيل لتغيير الخطاب المتعلق بالحرب بعيًدا عن كونها هزيمة مخزية. وكما كان الحال دوًما، تفتق ذهنه عن حله المفضل: قتل أعداد كبيرة من الناس لتشتيت الانتباه بعيًدا عن إخفاقات نظامه المفتقر لأبسط معاني الإنسانية.
وتبًعا لدراسة أجرتها زينب منصوري، فإنه على الأقل 10 إيرانيين أو عراقيين ماتوا خلال كل ساعة من حكم الخميني. وقد أشرنا بالفعل إلى الأرواح التي زهقت هباًء على امتداد 8 سنوات من الحرب. إلا أن الخميني لم يكتف بذلك، وأقدم على قتل الآلاف في مذبحة مروعة للأكراد في نقده وكذلك تركمان في كنبد. ومن بين من قتلوا آلاف المتظاهرين، بينهم الكثير من النساء والأطفال، ممن خرجوا إلى الشوارع ليعلنوا رفضهم حكمه الشيطاني.
وبعد أن ألغى فعلًيا حكم القانون من البلاد، أنشأ الخميني محاكمه الثورية الإسلامية مع اضطلاع ملا واحد بدور القاضي، عادة ما كان من الطلاب الدينيين ولا يتجاوز العشرينات من العمر، ومن دون وجود تمثيل قانوني للمتهم، ولا شهود ودراسة للأدلة.
وتبًعا لتقديرات صادرة عن منظمة العفو الدولية وجماعات حقوقية أخرى، فإن ما يزيد على 100 ألف إيراني جرى إعدامهم خلال فترة حكم الخميني البالغة 10 سنوات. في المقابل نجد أن فترة حكم الشاه الراحل التي امتدت إلى 37 عاًما شهدت إعدام 317 شخًصا فقط، تبًعا لتقرير أصدره آية الله الراحل مهدوي كني الذي عمل رئيًسا للوزراء لفترة وجيزة خلال حكم الخميني.
في ظل حكم الخميني، شهدت إيران حماًما من الدماء وسيلاً من أعمال العنف لم يسبق لها معايشتهما منذ العصور الوسطى. وفي ظل هذه الخلفية، أمر الخميني عام 1988 بسلسلة إعدامات جماعية. وارتبطت غالبية الإعدامات بأفراد جماعة «مجاهدين خلق» التي ساعدت الخميني في الوصول إلى السلطة، لكن انفصلت عنه بعد 18 شهًرا.
واللافت أن غالبية من أعدموا كانت قد صدرت بحقهم أحكام بالسجن، ولم يكن هناك أي أساس قانوني، حتى في إطار نظام الخميني، لإعدامهم. (هناك تقارير متضاربة حول أعداد من أعدموا، وتتراوح التقديرات بين ألفين و4 آلاف)
وفي إطار التسجيل الصوتي المعلن عنه الأسبوع الماضي، أبدى منتظري معارضته الشديدة لعمليات الإعدام ونصح بالتريث. وحذر من أن الإعدامات ستجعل الناس يتذكرون الخميني كـ«سفاح»، وأنها ستضر بصورة الثورة، بل والإسلام نفسه. وللتأكيد على وجهة نظره، كتب ولي العهد الفعلي رسالة إلى الخميني يحثه خلالها على إعادة النظر بالأمر.
أما «المرشد الأعلى»، الذي كان المتملقون قد رفعوا مرتبته في ذلك الوقت ليصبح «إماًما»، فاستجاب للخطاب بإصدار أوامره بتجريد منتظري من جميع مناصبه، بما في ذلك خلافة الحكم ووضعه قيد الإقامة الجبرية. ونسي الخميني أنه كثيًرا ما كان يصف منتظري، الذي كان أحد تلاميذه قبل ذلك بثلاثة عقود، «قرة عيني» و«ثمرة حياتي».
بيد أنه ما ينبغي التنويه به هنا أن موقف منتظري في ذلك الوقت لم يكن نابًعا من مشاعر ليبرالية من جانبه. في الواقع، على مدار تسع سنوات، صدق منتظري على الآلاف من أحكام الإعدام غير القانونية. إلا أنه بحلول عام 1988، كانت علاقته بالخميني قد تدهورت بسبب إصدار الأول أمًرا بإعدام شقيق زوج ابنته هادي هاشمي وإلقاء القبض على مجموعة كبيرة من المقربين منه في أعقاب تكشف فضيحة «إيران غيت» بين عامي 1985 و1987.
وعليه، فإن التسجيل الصوتي لا يجعل من منتظري قديًسا، وإنما يسلط الضوء على ضرورة أن تعيد النظر في حقبة الخميني على أمل الانطلاق في عملية متعقلة وهادئة لنزع الصبغة الخمينية عن البلاد.
المؤكد أن الخميني لم يقترف هذه الجرائم بمفرده، وإنما لا يزال الكثيرون ممن التقوا منتظري خلال هذا الاجتماع الشهير على قيد الحياة وفي مراكز نافذة بالبلاد.
وعلى مدار سنوات كثيرة، أطلق المعلقون تكهنات حول ما سيكون غورباتشوف إيران، مع طرح الكثيرين اسم الرئيس السابق محمد خاتمي، ليحل محله الآن الرئيس الحالي حسن روحاني. إلا أن آخرين تطلعوا باتجاه التجربة الصينية، بدلاً عن تجربة الاتحاد السوفياتي، في محاولة للبحث عن دينغ شياو بينغ الإيراني، في الوقت الذي حاول الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني تقديم نفسه في هذا الدور.
بيد أنه قبل أن يمكن باستطاعة إيران أن يكون لديها غورباتشوف أو دينغ، يتحتم عليها أولاً العثور على خروشوف أو شو إن لاي. يذكر أنه أثناء كلمة ألقاها عام 1956 أمام المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي، فضح خروشوف جرائم ستالين، وسعى لإعادة تأهيل بعض ضحايا الستالينية وقاد الاتحاد السوفياتي نحو نمط من الحكم الاستبدادي يلتزم على الأقل بإطاعة قوانينه. وقد حدث الأمر ذاته في الصين فيما يخص إرث ماو تسي تونغ، بدًءا من عام 1971.
ومن دون التخلص من الصبغة الخمينية، لن يكون أمام الجمهورية الإسلامية بإيران أدنى فرصة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والقانوني المأمول.